حكاية سالم وياسين.قصة قصيرة في محطة ترام مصر
.بقلم مجدي عبد الله
حكاية سالم وياسين

#حكايات من القهوة العالية
#بقلمي
#قصة_قصيرة
سالم وياسين
كانت محطة ترام محطة مصر تموج كعادتها بأصوات عربات الترام المزعجة وصراخ الباعة المتجولين،
لكنها لم تكن مجرد محطة عبور، بل مسرحًا خفيًا تتوالى عليه فصول من حكايات الحياة.
هناك، بجوار القهوة العالية، كان عم سالم الصعيدي يجلس كل صباح، رجلٌ يكسو وجهه سمرة الشمس وشقوق الزمن.
من جنوب الوادي جاء، لا يملك إلا مطرقته وأزميله، وحلمًا يدفنه في صدره، يرتشف الشاي الثقيل من تلك القهوة،
منتظرًا أن يمر عليه أحد المقاولين ليختار من بين العمال المكدسين على الرصيف.
في أحد الأيام التي بدت كغيرها، جذب انتباه عم سالم شابٌ نحيف يجلس بين العمال، عينيه غارقتان في الحزن،
وكأن جسده لا يقوى على حمل روحه، اقترب منه وسأله بلهجة صارمة، تخفي خلفها حنانًا غير معتاد:
“أنت يا ولدي، مالك؟ اسمك إيه؟ شكلك مش من هنا.”
نظر الشاب إلى عم سالم وكأن الكلمات عالقة في حلقه، ثم أجاب بصوت خافت:”اسمي ياسين…
أنا طالب في هندسة، أحتاج أشتغل عشان أقدر أكمل دراستي… مفيش غير كده.”
صمت عم سالم للحظة، ثم انحنى بجسده العريض نحو الشاب، وقال بصوت مزيج من الجدّية والتحدي:
“إزاي طالب هندسة يقعد كده؟ قوم وامشي ورايا، أنا هوريك الدنيا دي تمشي إزاي.”
لم يكن الطريق سهلاً. في اليوم الأول، أخذ عم سالم الشاب إلى موقع بناء قديم. أعطاه مطرقة وأزميلًا، وقال له:
“هاتقطع الحجر ده للآخر، لو كسرت منه قطعة واحدة غلط، تمشي من هنا.”
تعرقت يدا ياسين وهو يمسك المطرقة للمرة الأولى،
يشعر بثقلها كأنها جبل فوق صدره، يوم كامل مرّ، وعم سالم يراقبه بصمت،
لا يتدخل إلا عندما يرى الشاب يقترب من الاستسلام.
حين أنهى العمل، نظر إليه عم سالم وقال بابتسامة صغيرة:
“مش الشغل اللي صعب، الصعب إنك تصدق إنك تقدر.”
مرت الشهور، وبدأت العلاقة بينهما تتجاوز حدود العمل، رأى ياسين في عم سالم الأب الذي لم يعرفه،
ورأى عم سالم في الشاب صورة طموحه الضائع. لكن الحياة لم تكن رحيمة.
في أحد الأيام، انهار ياسين تمامًا تحت ضغط العمل والدراسة، وأعلن بصوت يائس:
“مش قادر أكمل… خلاص، الحلم ده أكبر مني.”
جلس عم سالم بجواره، ووضع يده الخشنة على كتفه قائلاً: “أنت فاكر إني وصلت هنا بسهولة؟
فاكر الأيام اللي نمت فيها على الرصيف عشان ما معيش حق المبيت؟
الحياة دي يا ولدي مش بتديك حلم إلا لما تختبر قدرتك عليه… اللي بيهرب، بيخسر.”
كلماته كانت كسيف يشق الغمام عن شمس الشجاعة، واستعاد ياسين قوته.
سنوات مرت، وياسين لم يعد ذلك الشاب النحيف الذي عرفه عم سالم على الرصيف أصبح مهندسًا بارعًا،
ليس فقط لأنه أتم دراسته، بل لأنه تعلم كيف يصمد، ومع الوقت، بدأ يدير مشاريع عم سالم بنفسه،
لكن النجاح لم يكن النهاية، بل بداية مرحلة جديدة.
رغم أنه أصبح من أكبر المقاولين في الإسكندرية، لم ينقطع عم سالم عن القهوة العالية،
كانت هي مكانه الأول، حيث تشرب من الحياة شجاعته الأولى.
في أحد المساءات، وبينما كان جالسًا يحتسي الشاي، اقترب منه شاب جديد، نحيف الجسد،
بعينين تبحثان عن أمل. كان الموقف أشبه بإعادة شريط الزمن، التفت عم سالم إلى ياسين،
الذي كان يجلس بجواره هذه المرة، وقال مبتسمًا: “فاكر لما كنت أنت مكانه؟”
ثم التفت إلى الشاب الجديد وقال له بنفس نبرة صوته القديمة:
“تعال يا ولدي… امشي معانا، وهوريك إزاي الدنيا دي تمشي.”
*******