الشعر العربي وجدل أصوله منذ مئة عام

الشعر العربي وجدل أصوله

أصول الشعر العربي.. مئة عام من الجدل:

بروين حبيب

شاعرة وإعلامية من البحرين

قبل قرن من الزمان في سنة 1925 نشر مستشرق إنكليزي يدعى:

ديفيد صمويل مرجليوث :

مقالا بالإنكليزية في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية عنوانه :

«أصول الشعر العربي The Origins of Arabic Poetry».

وكان يمكن لخبر كهذا أن يمر دون لفت انتباه، فعشرات المستشرقين كتبوا مئات المقالات عن الشعر العربي، لولا أن أستاذا جامعيا متخرجا من السوربون يدعى طه حسين،

أصدر بعد مقال: مرجليوث. بسنة

كتابا بعنوان «في الشعر الجاهلي»

يدور بتوسع على فكرة مقال المستشرق الإنكليزي نفسها، فأقام الكتاب ـ ومقال مرجليوث ضمناً ـ الدنيا ولم يقعدها،

ونتجت عنه معركة أدبية، لا يزال شررها يتطاير إلى يومنا هذا، أُلفت فيها عشرات الكتب وسُطرت مئات المقالات ووصلت إلى المحاكم،

واختلط فيها الدين بالأدب فأصبحت قضية رأي عام.

فما قصة هذا المقال ذي الاثنتين وثلاثين صفحة الذي يَحتفل بعيد ميلاده المئوي هذا العام؟ والحقيقة أن هذا البحث في نشأة الشعر العربي،

الذي أسال حبرا كثيرا من عرب ومستشرقين، تأييدا أو تفنيدا له صدر عن واحد من أكثر المستشرقين إثارة للجدل،

فقد اختلف فيه من ترجموا له إلى حدّ التضادّ، ففي الوقت الذي يصفه يوهاك فوك في كتابه:

«تاريخ حركة الاستشراق» بالعالم المثقف خفيف الظل متنوع الاهتمامات،

نجد الزركلي في كتابه «الأعلام»

يقول عنه: «له في لغته كتبٌ عن الإسلام والمسلمين،

لم يكن فيها مخلصا للعلم، على الرغم من توسعه في معرفة المسلمين وأدبهم»،

وهو الرأي نفسه الذي ذهب إليه عبد الرحمن بدوي في «موسوعة المستشرقين»،

فرغم أنه أثنى على جهود مرجليوث في إخراج العديد من المخطوطات العربية المهمة إلى النور،

إلا أن لبدوي موقفا سلبيا من كتابات مرجليوث عن الإسلام ونبيه مثل دراساته: «محمد ونشأة الإسلام» و»الإسلام»

ومن ثم »العلاقات بين العرب واليهود»، فوصفها بدوي بأنها «كانت تسري فيها روح غير علمية ومتعصبة،

مما جعلها تثير السخط عليه ليس فقط عند المسلمين، بل عند كثير من المستشرقين».

وقد تجاوز الاختلاف في كتابات إسلاميات مرجليوث إلى الاختلاف حتى في إتقانه للغة العربية،

وهذه مسألة جوهرية فعليها ينبني تقييمنا للنتائج التي توصل إليها في أبحاثه عن الشعر العربي،

ففي الوقت الذي يخبرنا عنه نجيب عقيقي في موسوعته للمستشرقين بأنه أتقن العربية، وكتب فيها بسلاسة،

وهذا الرأي سبقه إليه جرجي زيدان حين أشاد في كتابه «تاريخ آداب العربية» بلغة مرجليوث العربية

فكتب: «يمتاز على الخصوص بسعة معرفية في اللغة العربية وآدابها،

يكاتب أصدقاءه بأسلوب عربي خالص من شوائب العجمة»،

واستدل على هذا التمكن والمعرفة الجيدة بنشر مرجليوث لرسائل المعري،

مضيفا «وهو عمل لا يستطيعه إلا القابض على ناصية اللغة العربية لأن هذه الرسائل لا يفهمها العربي إلا بمراجعة المعاجم»،

ولعل في هذا الحكم من جرجي زيدان رد جميل لمرجليوث،

لأنه ترجم إلى اللغة الإنكليزية المجلد الرابع الخاص بالأمويين والعباسيين من

كتاب جرجي زيدان «تاريخ الحضارة الإسلامية».

في المقابل نجد رأيا آخر تبناه الأديب شكيب أرسلان:

شكك فيه في إتقان مرجليوث للغة الشعر العربي في رد مبطن على تشكيك مرجليوث نفسه في الشعر الجاهلي،

فقال «إن من أحمق الحمق أن نظن أن مرجليوث – بكونه إفرنجيا –

صار يميّز الشعر المصنوع على لسان الجاهلية من الشعر الجاهلي الأصلي»،

أما عبد الله الطيب في كتابه «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها»

فقد ذهب إلى رأي أبعد من ذلك حين تناول قصيدة «أيها النيل» التي أهداها أحمد شوقي إلى مرجليوث،

فكتب عبد الله الطيب هذا التعليق العجيب:

«وأنا أشك جدا إن كان مرجليوث فهم هذه القصيدة كما ينبغي أن يُفهم الشعر،

فالرجل كان لا يكاد يستسيغ العربية إلا بعد أن يترجمها إلى الإنكليزية،

ومع ذلك فقد كانت دعواه فيها طويلة عريضة»،

ويتضاعف تعجبنا إذا علمنا أن الذي كتب مقدمة كتاب الطيب ليس سوى طه حسين صديق مرجليوث والعارف به،

ومع هذا لم ينكر ما ذكره عبد الله الطيب في كتابه.

مهّد مرجليوث لبحثه الإشكالي:

هذا ببث أفكاره في دراساته التاريخية عن الإسلام وبمقال عن الشعر الجاهلي نشره سنة 1916م

استدعى ردا من المستشرق تشارلز ليال،

ولكن بعد ذلك طوّر مرجليوث فكرته وحشد لها الأدلة ونشر بحثه «أصول الشعر العربي»

(ترجم في ما بعد إلى العربية أربع ترجمات واحدة منها لعبد الرحمن بدوي)

وقد لخص ناصر الدين الأسد:

في كتابه مصادر الشعر الجاهلي الأدلة الداخلية والخارجية

التي استند إليها مرجليوث تلخيصا وافيا،

وفكرة المقال الأساسية تقوم على أن لا وجود للشعر الجاهلي بل نظمَه رواة وضّاعون ونحلوه لشعراء جاهليين،

فلم يكن في الجاهلية سوى سجع الكهان، والنقوش التي وجدت في جزيرة العرب تخلو من هذا الشعر،

كما شكك في انتقاله عبر الأجيال بالحفظ، خاصة أن القرآن ذمّ الشعر والشعراء فأولى بالمسلمين تجنبه.

وتناول مرجليوث مجموعة من الرواة الذين عُرفوا بالكذب والانتحال وجعلهم حجة على ما ذهب إليه.

وما كان لهذا البحث وهو المكتوب بالإنكليزية في مجلة متخصصة للمستشرقين

أن يأخذ هذا الصدى لولا أن طه حسين نشر بعد عشرة أشهر كتابه الإشكالي «في الشعر الجاهلي»،

فاغتنم خصوم طه حسين، وهم كثيرون،

الفرصة لإيقاد نار واحدة من أكبر المعارك الأدبية في القرن العشرين، تجاوزت الكتب والصحف لتصل إلى البرلمان والمحاكم،

وكان مصطفى صادق الرافعي أول من اتهم طه حسين بالسطو على أفكار مرجليوث فكتب في كتابه «تحت راية القرآن»

«إن مجلة الجمعية الآسيوية نشرت بحثاً للشيخ مرجليوث.. أنكر فيه صحة الشعر الجاهلي..

ولما فتحت الجامعة إذا المستشرق طه حسين ينتحل الفكرة ويدّعيها ويبوب لها أبواباً ويفصل فصولاً ويدرّس ذلك فى الجامعة»،

مع ما في تعليقه من تهكم شخصي بوصف مرجليوث بالشيخ وطه حسين بالمستشرق،

وقد وصف تلميذ الرافعي محمود محمد شاكر كتاب «في الشعر الجاهلي» بأنه «حاشية طه حسين على متن مرجليوث».

وقامت جبهتان إحداهما مكونة من الأزهريين ولهم ثارات قديمة مع طه حسين،

يضاف إليهم المحافظون أصدروا كتبا عديدة في الرد على طه حسين

مثل كتاب محمد الخضر حسين شيخ الأزهر لاحقا «نقض كتاب في الشعر الجاهلي»

وكتاب محمد فريد وجدي «نقد كتاب الشعر الجاهلي»، وكتاب الرافعي الذي ذكرناه وغيرها،

وفي المقابل احتشد للدفاع عن طه حسين كبار أدباء مصر مثل،

أحمد لطفي السيد وتوفيق الحكيم وسلامة موسى،

ورغم خصومة طه حسين الأدبية مع العقاد فقد دافع العقاد عنه وعن كتابه تحت قبة البرلمان،

بل حتى مرجليوث نفسه برّأ طه حسين من السطو على أفكاره فنشر مقالا جاء فيه

«توصل كلّ منا – مستقلا عن الآخر تماما – إلى نتائج متشابهة».

واضطر طه حسين نتيجة التجييش الشعبي والمطالبات بإبعاده من الجامعة وبسجنه،

إلى أن يحذف بعض الأفكار – التي قيل إنها تمس الدين-

من كتابه وغيّر عنوانه إلى «في الأدب الجاهلي».

والقارئ الموضوعي يجد تشابها كبيرا لا تطابقا بين البحثين،

والفرق بينهما أن مرجليوث أنكر الشعر الجاهلي جملة وتفصيلا وعدّه من صنع الرواة المسلمين،

في حين أن طه حسين شكك في معظمه حين كتب «وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا،

لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء وينبغي عدم الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي»،

وقد لخص هذا الاختلاف شوقي ضيف تلميذ طه حسين في كتابه «تاريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي»

فكتب «يزعم مرجليوث أن الشعر الجاهلي جميعه منحول على أهله..

وممن ذهب مذهبه في تعميم الحكم على الشعر الجاهلي بالانتحال والوضع طه حسين، وإن لم يتسع بحكمه اتساع مرجليوث».

انتقل الخلاف من التشكيك في الشعر الجاهلي إلى التشكيك في أصالة أفكار طه حسين،

وما زلنا نقرأ إلى الآن بعد عدة عقود من لا يزال يتهم طه حسين بالسطو مثل مقال إبراهيم عوض:

«نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي:

سرقة أم ملكية صحيحة؟» ومن لا يزال يدافع عنه كالمقال الذي نشرته صحيفة «القدس العربي»

نقلا عن رويترز قبل سنوات بعنوان «في الشعر الجاهلي..

براءة طه حسين من الاتهام بالسرقة بعد 82 عاما!»:

ترى هل كان يتوقع مرجليوث وهو الذي حقق وكتب آلاف الصفحات عن الإسلام والأدب العربي

أن بحثا له من عدة صفحات يثير كل هذا السجال ويصبح العلامة الدالّة عليه؟!

*******

المراجع والمصادر:

مواقع إجتماعية- فيس بوك

القدس العربي

fotoartbook

elitephotoart

اترك تعليقاً