سر .. أم كلثوم حكاية لقاء الصدفة الذي بدَّل حياة المنشدة الصغيرة

سمير الجمل

ماذا تخفي سيدة الغناء عن الملايين:

وماذا لو دخلنا غرفة نومها نفتش هنا وهناك عن الجديد؟ وهل كان لـ ثومة وجه غير الذي نعرفه؟

ما بين حب الشاعر أحمد رامي وخطبتها للملحن محمود الشريف ورفض الأسرة الملكية ارتباطها بخال الملك فاروق.. وبين زواجها المتأخر من الدكتور حسن الحفناوي ليكون لها معالجاً وأنيسا بعد الخمسين.

وحقيقة عقد الزواج الذي ربط بينها وبين الكاتب مصطفى أمين لمدة عشر سنوات واحتفظ به جمال عبدالناصر.. بعد العثور عليه في مكتب الصحافي الذي اتهموه بالتجسس.

وبين تدخلها لإنقاذ مؤسسة أخبار اليوم من الإفلاس والإغلاق وبين حضورها في العواصم العربية وتكريمها على أعلى المستويات وجمعها للأمة العربية على ضفاف حنجرتها.

بين كل هذا.. وغيره.. من يستطيع أن يكتب التاريخ السري لأم كلثوم.. الفلاحة الفصيحة.. التي حاربت الابتذال.. وحاربوها إلى حد اتهامها في شرفها..

وفي الكويت غنت لواحد من كبار شعرائها وهو أحمد العدواني ولها فيها حكايات غير معروفة وبين.. وبين.. أين نجد التاريخ السري لأم كلثوم..

ذلك هو السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذه الحلقات التي تنشرها النهار.

المسافة بين جامع عمر مكرم في ميدان التحرير بالقاهرة وجامعة الدول العربية هي أمتار قليلة لا تذكر لكن الملايين الذين توافدوا إلى هذا المكان كان بعضهم ينظر إلى الجامعة العربية بعين

والأخرى على ذلك النعش المحمول على الأكتاف

والقلوب وبداخله المرأة التي حصدت من الألقاب والأوسمة والإعجاب

ما وحد العرب من محيطهم إلى خليجهم

أكثر من تلك الجامعة

التي تقف شاهدة في ذلك الميدان العريق تحاصرها المشاكل والأزمات واختلاف الآراء لكن الست أو ثومة أو صاحبة العصمة أو كوكب الشرق أو سيدة الغناء العربي كان أيضا جامعة بلا خلافات وقد ظل الخميس الأول من كل شهر موعدا لأكبر اجتماع عربي على ضفاف حنجرة فاطمة إبراهيم البلتاجي، فيه يلتقي الخلان والأحبة والعشاق وأصحاب المزاج الرفيع ينتظرون طلعتها البهية وهي تتكلم باللغة التي تطل على لسانها بديعة وراقية فيها عبق الماضي والحاضر .
بين ماضٍ لم يدع لي غير ذكرى عن خيالي لا تغيب
وأماني صورت لي في غد لقيا حبيب لحبيب.
هكذا قال شاعرها الأول احمد رامي ولكنه أبدا لم يكن شاعرها الأخير أو الوحيد فإذا جمعت أفلام من غنت قصائدهم سنجد أنها جامعة.
وإذا بحثت في دولاب جوائزها عن الأوسمة والنياشين ستكتشف أن العواصم العربية كلها بلا استثناء صفقت واحتفلت وغنت ثم بكت في يوم وداعها 3 فبراير 1975 في مشهد لم يحدث لفنان عربي لا من قبل ولا من بعد.
وما بين الميلاد الشتوي في نهاية ديسمبر 1898 والميلاد الموثق رسميا في 4 مايو 1908 كانت وما تزال أم كلثوم كاملة الحضور في الوجدان العربي متقلب المزاج.
ألا هي
في رحلتها شهدت أزمات وعواصف وانكسارات.. وحمدت ربها أنها لم تفارق الحياة قبل أن ترى نصر أكتوبر 1973 يتحقق بعد أن بذلت الجهد العظيم بعد نكسة 1997 لكي تجمع الأموال للمجهود الحربي ويثبت الحضور العربي في هذه الحرب وجودة البديع بالمال والسلاح والحضور على الجبهة المصرية والسورية بجند السعودية والكويت والجزائر والأردن والسودان وليبيا والمغرب في مشهد ضد النسيان وكانت قد بشرت به أم كلثوم وهي تغني:
أصبح عندي الآن بندقية
والبندقية ليست فقط هي قطعة السلاح التي يحمي الإنسان بها نفسه ويدافع عن كرامته وأرضه بل هي الاندماج والتوحد والانصهار في بوتقة واحدة.

وبين جامعة سياسية ظهرت شهادة ميلادها في عام 1945م.

وبين جامعة فنية أسستها ثومة بالتعاون مع من كتبوا ولحقوا واحتضنوا أغنياتها اتفق العرب على أنها الست التي لا يخلو بيت خليجي أو شامي أو مغربي أو سوداني أو عراقي من حكاية لها

أحبوا على شواطئ حنجرتها الذهبية وعشق القلب كل جميل خلالها.

– كان الغناء قبلها حالة
– وبعدها أصبح الغناء حالات

إنها العصامية التي نالت شهادتها من مدرسة الحياة العليا بامتياز حتى أصبحت هي نفسها مدرسة وجامعة بل وزارة للتربية والتعليم والحب والوطنية والروحانيات

انظر إلى حفلاتها المصورة تليفزيونياً والكافية تستعرض هذه الأناقة في الملبس والإنصات والإعجاب الذي يبلغ حد التهليل.

إنهم يجلسون في حضرة الست بالسواريهات والاسموكن والبدل الكاملة كأنها لحظات ابتهال لا يقطعها لا التصفيق والتهليل:

عظمة على عظمة يا ست!!

فيها أماكن محجوزة لأصحابها مقدما حتى وإن حال بين بعضهم والحضور المرض أو الموت.

ومن بيوت باب الشعرية والسيدة زينب وسيدنا الحسين إلى مصر الجديدة والزمالك وجاردن سيتي..

ثم إلى الفحيحيل والقادسية والكاظمية في الكويت إلى سلوى والخور في قطر..

إلى جدة والرياض والطائف في السعودية.. إلى الدار البيضاء وطنجة والرباط في المغرب..

إلى سوسة وقرطاج في تونس..

إلى وهران ومولووية وقسطنطية في الجزائر..

إلى طرابلس وبنغازي في ليبيا..

إلى أم درومان والخرطوم في السودان..

وإلى البحرين والإمارات والعراق والشام ولبنان

لا فقير ولا غني.. ولا كبير ولا شاب.. ولا قصر أو كوخ.. ولا سياسي وبائع على باب الله..

تسقط الحواجز بين الجميع في

ليلة الست التي أدخلت قصائد :

شوقي وناجي وإقبال ونزار وفيصل إلى الحواري والمناطق الشعبية.

سر النجاح:

يقول السير ولتر سكوت إن أفضل معارف الإنسان ما يكتسبه بنفسه ويفتخر بنيامين برودي بأنه لم يدرس على يد أستاذ..

لأن الإنسان لا يتعلم في المدارس ألا المبادئ لكن الخبرات والمعارف يكتسبها بالتجربة والبحث والتأمل وأفضل ما في الإنسان اجتهاده لنفسه

فإذا غاب عنه هذا الاجتهاد لم تنفعه الكتب ولا المعلمون وإلا الدروس وأهل الفكر يعرفون ويؤكدون على أن المدارس والجامعات قد تعطي لخريجها الشهادة بمستوياتها المختلفة..

لكن الحياة تقدم نفسها وتكشف أسرارها لمن توغل في دروبها..

وتعلم من الخطأ معنى الصواب.. ومن الفشل قيمة النجاح البنت الصغيرة التي بدأت رحلتها مع والدها وأخيها.. في ليالي الإنشاد الديني والمدائح..

حيث لم يعرف الريف سوى هذا النوع من الغناء حيث لا راديو ولا جرائد ولا رغبة.. إلا في هذا النوع من الاحتفالات الذي يجمع بين المناسبة الدينية والاجتماعية في إطار الاحتشام والعادات والتقاليد.

كانت البنت الصغيرة التي ظهرت لأول مرة بالعقال والجلباب.. تراقب أكثر مما تشارك وهي تختفي في ملابس الصبيان.. ولما انفلت صوتها ذات مرة من العقال..

توقف الناس وتطلعوا إليها وطلبوا منها المزيد.. ووجد الأب الشيخ إبراهيم نفسه في مأزق بين أن يلبي طلب السميعة.. أو ينصرف الناس عنه وعن أسلوبه وأناشيده..

لأن البنت فيها (حاجة جديدة) وكانت كل ما تمتلكه لغة عربية عرفتها من كتاب القرية وهي تحفظ القرآن الكريم.. ويكون مفتاحها الذهبي إلى مشوارها الطويل وكأنه حصنها الحصين في ثقافتها وأخلاقياتها وقتها.. وكيف لا..

وقد بدأت مع المشايخ..

وقد كانت شديدة الإعجاب

بالشيخ الملحن: ابوالعلا محمد..

وكان لقب الشيخ في هذا الوقت يسبق الفنان والمفكر والشاعر والسياسي بلا حساسية..

وأهلنا في الخليج يمنحون هذا اللقب حتى وقتنا هذا للصفوة وأهل الامتياز..

قبل أن يتحول هذا اللقب إلى وسيلة للتجارة بالدين..
وكان عريف القرية أو شيخ الكُتاب هو الخطوة الأساسية التي قدمت رموز المجتمع المصري قبل دخولهم إلى المدارس والجامعات ومنهم من اكتفى بهذا القدر من دروس الكتاتيب مثل أم كلثوم..

التي عوضت انقطاعها عن التعليم الرسمي بحضورها وسط دائرة من المفكرين والصحافيين والفنانين والسياسيين وقد كانت تقرأ في كل شيء

وكان رامي مستشارها الثقافي الرجل الذي أحبها عن بعد وحول عواطفه ناحيتها إلى فن وإرشاد ودعما بلا حدود والإنسان على دين صديقه فانظر من تصادق وتصاحب.
على المحطة
على محطة السنبلاوين كان لقاء الصدفة السعيدة بين الشيخ ابوالعلا وأم كلثوم وهي تمسك يد والدها وأخيها في رحلات الإنشاد في البلدان المجاورة..

وقد بدأت تتجاوز حدود الدقهلية إلى محافظات أخرى كانت تسمع عنه وقد ذاع صيته وكيف لا وهو الرجل الذي ارتبط اسمه بالإبداع الموسيقي وتلحين القصائد على الهواء في التو من وحي اللحظة

وهو يعطي لفرقة التخت الإشارة بأن تقدم بعض التقاسيم التي تشبه عمليات الإحماء والتسخين التي يقوم بها كباتن الكرة.. فإذا أشار لهم بدأ هو في السلطنة فقد كان يلحن ويغني..

وهو الصعيدي الأسيوطي الذي ابتكر التخت الموسيقي الحديث وحصل على لقبه شيخ الملحنين وعلى الرغم من قدراته على الارتجال.. إلا أنه وضع الأسس لمعنى وقيمة الملحن..

ومثل غيره بدأ منشداً وقارئا للقرآن الكريم وهذا هو السر الأعظم الذي جمع كبار أهل الموسيقى والغناء والفن والأدب.. وقد سجل أول اسطوانة عام1912م..

واعتبره البعض خليفة الشيخ عبده الحامولي.. ومن النوادر أن الشيخ عبقري التلاوة محمد رفعت.. غنى من الحان (أبو العلا) قصيدة: وحقك أنت المنى والطلب.

لقاء الشيخ مع المنشدة الصغيرة كان نقطة التحول في حياتها فقد نصح والدها بأن يأخذها إلى القاهرة بعد أن ضاقت عليها ليالي الإنشاد والموالد في المحافظات..

وبدأ الناس يسمعون عنها ويطلبونها..

وأصبحت النعمة التي فتحت الأبواب أمام والدها الشيخ إبراهيم.. ووسعت دائرة انتشاره ورفعت أجره وصيته.
أبو العلا أيضا.. هو الذي جمع بين أم كلثوم ورامي عندما لحن أغنية الصب تفضحه عيونه..

وهو أيضا من نصح أم كلثوم أن تتخلى عن العقال والزي البدوي الصبياني لكي تصبح الآنسة صاحبة العصمة أم كلثوم.. وتدخل قصور الباشوات والأكابر.. فهل كان الصوت الذهبي وحده كفيلاً بأن يحول بنت طماي الزهايرة..

إلى أسطورة مصرية عربية عالمية.. أم أنها الشخصية التي جمعت بين رقة الأنثى وصلابة الرجال والفرق شاسع بين آنسة وهي لم تدخل دنيا الزواج وبين لقب الست المرتبط بالقوة والتميز..

وقد سبب لها المتاعب في عصر أنور السادات فقد كانت السيدة جيهان بعد أن اختارت لنفسها لقب السيدة الأولى تخشى من سطوة أم كلثوم وصراعها معها على اللقب..

فقد أخذته ابنة الشيخ إبراهيم باستفتاء جماهيري عربي عالمي غير معلن وغير رسمي.. وأخذته جيهان.. بحكم المنصب بدليل أن سوزان مبارك من بعدها..

حصلت على اللقب الذي أصبح ميراثا لسيدة القصر الرئاسي.. بينما ظل لقب الست حكرا على أم كلثوم حتى بعد وفاتها بسنوات.
وكانت الست تعرف السادات ومجلس قيادة الثورة.. حيث حاول البعض إزاحتها من الساحة بحجة أنها تمثل عصر فاروق البائد بعد ثورة 1952م..

لكن عبدالناصر قال: الهرم أيضا من رموز العهد البائد نهدمه؟

واستمرت ثومة صوتا للثورة وعبدالناصر.. في كل موقف.. إلى جانب عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ.. وربما كان العشم بينها وبين السادات سببا في غيرة جيهان.. ومحرضا على دعم المغنية ابتهال الحصري التي أصبحت فيما بعد ياسمين الخيام ووجهوا الإعلام وقتها أن تصبح ابنة شيخ القراء.. هي المغنية الأولى.. وبدأت الحرب على أم كلثوم بكل السبل.. وانتهى عصر السادات.. واعتزلت ياسمين وظلت الست حاضرة.. في كل الوجدان العربي بل وتجاوزته إلى العالمية بحق..
وكان الشيخ أبو العلا يخشى عليها من الموت المبكر.. نظرا لقدراته الخارقة وقد وصفها بأنها تغني بدمها.. وقد عاصرته لمدة ثلاث سنوات قبل أن يرحل ويعطيها كلمة السر.. في القاهرة التي وصلتها لتغزوها.. وتغير مفهوم مطربات الليالي والأنس وتدخل في منافسة مع منيرة المهدية.. وكعادتها.. عرفت كيف تراوضها وتنتصر عليها وتتجاوزها.. لأنها في كل لحظة كانت تطور أسلوبها وتوسع دائرة معارفها.. وتبحث عن الجديد لذلك استمرت وسقط غيرها.. وخرجت من معاركها العديدة وهي أكثر قوة مما كانت.. وعينها دائما على فنها.
الجامعة
عندما فكر أهل القومية العربية في إطلاقها لكي تواجه المستعمر.. التركي والانكليزي والفرنسي.. ويتخلص العرب من التبعية وتكون ثرواتهم لهم وإرادتهم من أدفعتهم.. عندما فكروا في ذلك..

كانت انكلترا تريد التخلص من السلطة العثمانية وهي تدرك جيدا أن الإسلام قد يكون جسرا للتواصل بين العرب والأتراك..

هنا لعب الانكليز على وتر القومية.. وأطلقوا فكرة الجامعة العربية.. وكانت وعودهم خضراء ولامعة للعرب وتوحدت المصالح.. لكن الغدر الغربي كان يريد تقسيم الوطن..

والغريب أن يأتي هذا في وقت يساندون فيه فكرة القومية العربية ظاهرا..

لمصلحتهم ويحاربونها سراً لمصلحتهم أيضاً.. بدليل وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو..

أوروبا اختلفت مع نفسها لكنها توحدت على أرض العرب ولصالح إسرائيل..

بل إنها أعطت تركيا لواء الاسكندرونة وتصرفت كأنها صاحبة الأرض .. وابتلع العرب الطعم..

وحدث التقسيم وزرعوا دولة إسرائيل في قلب العرب وعلى مرأى ومسمع منهم لكنهم استخدموا سياسة العصا والجزرة حسب كل ظرف..

وكل دولة وكل قائد، فهل كانت أم كلثوم ترى كل هذا.. وتفكر كيف يمكنها بالغناء أن توحد العرب بعد أن فشلت أيضا تجربة الوحدة المصرية السورية لأسباب اقتصادية وسياسية..

لاختلاف التوجهات الشعبية.. هل فكرت الست في بداياتها أنها ستكون البديل العربي الذي لا خلاف حوله.. ولا تنازع فيه أو شقاق.

وكيف حققت هذا الهدف وإن لم تكن تخطط له بشكل مباشر؟!
هيا نتجه إلى بلد المحبوب!!
(انتظروا الوصلة القادمة).

******

معرض الصور:

**

المراجع والمصادر:

مواقع إجتماعية- فيس بوك

موقع الغد

fotoartbook

elitephotoart

 

اترك تعليقاً