سامر محمد إسماعيل.. مسؤولية عالية تجاه الكلمة الولاّدة
-
علي الراعي / دمشق
يحار المرء عند التدوين عن سامر محمد إسماعيل؛ من أين يبدأ، هل يبدأ من الصحافة.. الإبداع الذي كان أوّل ما خاض به، أم النقد ولا سيما النقد المسرحي، الذي بقي زمناً طويلاً يُتابع عروض المسرح السوري على تنوّع خشباته: القومي والخاص والتجاري، وحتى المواهب الشبابية، والفرق المسرحية التي ما إن تُعلن ولادتها، حتى تُمسي ماضياً.. أم نبدأ من الكاتب المسرحي، أو السيناريست، أو المخرج السينمائي، أو المخرج المسرحي، وليس آخراً الشاعر الذي تميز بنصٍّ شعري حجز من خلاله مكانته اللائقة في ديوان الشعر السوري؟!
“عندما كان حرف الصاد لا يزال صنارة صيد
في الأبجديات القديمة؛
كنتُ أنا ما أزال سمكة
تسبَحُ في ماء حوضكِ البابلي،
وكان تمامي محاقَكِ
ونقصاني سين البداية،
وميم الختام.”
الحقيقة. إن سامر إسماعيل ابن (مصياف) في محافظة حماة، الريفي المشبع ببراءات الطبيعة الأولى، وصاحب مخازين من الذاكرة المفعمة بالمشاهد البصرية، المقيم فيما بعد في العاصمة دمشق، كان يوزّع كنوز تلك الذاكرة تنويعات إبداعية، دون أن يُميّز جنساً إبداعياً عن سواه إلا بما توفره الظروف والمنابر لجنسٍ إبداعي دون آخر.
فقد ينشط في المسرح لبعض الوقت، كما حالته مؤخراً، لكنه يُخصص حيزاً جميلاً للسينما يملؤه بقصائد سينمائية إما إخراجاً أو كتابةً.. وهو في خضم مناخاته الصحفية قد يُصدر مجموعة شعرية لافتة العناوين والمحتوى.. كما له مجالٌ ثقافيٌّ آخر – ربما قلة من يعلم به- وهو التدريس، فقد درّس مواد في المعهد العالي للفنون المسرحية، وفي المعهد العالي للفنون السينمائية في دمشق. باختصار سامر محمد إسماعيل “شغيل ثقافة” على مدار الأربع والعشرين ساعة، لا يمل.. ينوّع في أجناسها بكلّ حرص فلاحي قرى مصياف على أشجار بساتينهم سقايةً وتقليماً وقطافاً، ومن ثمّ ليس مفاجئاً أن يكون حصاده وافراً كما سنقرأ له من خلال: عشرات الدراسات النقدية في المسرح والسينما والفن في عشرات المنابر الصحفية، كما شارك في العديد من الندوات الدولية في مهرجانات مسرحية، وكتب وأخرج العديد من النصوص المسرحية أبرزها: ليلي داخلي- 2013، تصحيح ألوان- 2017، تجربة أداء- casting عام 2021، مسرحية “الذيب”- 2023، وكان حاز جائزة الدراما الأوروبية (الأورودرام) لعام 2020 عن نص مسرحية الخوف، كما صدر له نص مسرحية (الخوف) بالفرنسية عن دار لارماتان بباريس- 2022، وحاز جائزة الشعر في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008 عن ديوان “متسوّل الضوء”، وقد صدر له في الشعر أيضاً: “أطلس لأسمائكِ” عن دار التكوين في دمشق -2015، و”سكتة بيضاء مستديرة”، وله كتاب “أنطولوجيا مسرح الحرب في سورية”.. وكتاب “السينما السورية في الحرب”- صادر عن مركز مداد في دمشق- 2016. له كتاب مشترك عن أفلام المرأة في السينما العربية مع كتّاب ونقاد من الوطن العربي. صادر عن منشورات مهرجان أسوان في مصر..
“”غود مورنينغ” أيها الصباح
“غود مورنينغ” أيها البحر الملطخ بالآلهة القديمة
وأنتِ أيضاً يا حبيبتي المطلية بالسفرجل وغصاته:
“غود مورنينغ”
طاب صباحكِ يا شجرة الفستق
المحمّصة على نارٍ هادئة
المملّحة بدموعِ من قطفوها
“غود مورنينغ ماي لاف”
“ماي ليتل بيوتي”!”
تقول الكاتبة نهلة كامل في شهادتها: يمارس سامر محمد إسماعيل حياته الإبداعية على مساحة موهبة واسعة التنوع، تجريبية الاتجاه، فلا يسلك الطريق الأسهل بالحراثة فوق درب معبدة، أو سياق مسبق الإعداد، بل الأصعب في فضاء يفترض كشفاً مبتكراً. هو يحقق مبدأ تجنيس أعماله بنفسه، بداية بالصحافة، إلى تجربته المسرحية والسينمائية، فلا يتورع عن خوض زوايا مسدودة، وتفاصيل مغيّبة في الواقع المغلق والعشوائي معاً، ليكون أولاً منقباً في أوصال بشرية مشتتة المكان والدلالات، وستبقى هواجسه مشتعلة بين داخل يتعذب وخارج يحترق، دون مغادرة حقول ارتجال إنسانية سورية تنتج نفسها يومياً.
وتُضيف: عرفت سامرالصحفي أولاً، بحكم تواجدي خارج سورية لفترة طويلة، قرأت له في مواقع صحفية بارزة ومتناقضة التوجهات، ولم أشعر بذاك التنافر في مقالاته بين السفير اللبنانية والإندبندت البريطانية.. المبدأ الذي تجاوز الصحافة إلى مساحة عمله الإبداعي مؤلفاً ومخرجاً.. يسيطر سامر على منجزه بالكامل، فلا تفلت من شغله قضية الإخراج المسرحي وهو يطمح إلى دور دراماتورجي يكتب نصه بذاك التصور الكامل للعرض.. وهو في المسرح مؤلفاً بمعنى الكتابة من فوق الخشبة، مؤدياً دور رجل مسرح حديث، يعد ممثله بغرضه المختلف، ويغادر الميزانسين المألوف إلى آخر يتشكل من فرجة متداعية الصدمات، لا متوقعة الاغوار، لاهثة الكشف لا خشبة واضحة الاحتمالات، ويترجم الدراماتورجيا على أنها السبيل إلى تجريبية متحررة تفسح العرض لارتجالٍ مفاجئ.
هكذا شاهدت مسرحية (كاستنغ- تجربة أداء)، التي قدّمهاعلى خشبة مسرح القباني، وتأهلت للتجوال في المسارح العربية بنجاح لافت. بالمقابل سيختار سامر التجربة السينمائية إذا كانت الأنسب لجنس عمله الإبداعي، محقّقاً نوعاً مختلف الأسلوب غني التفاصيل المشهدية، وكأنه لا يغادر حقل السينما الوحيد.
ولسامر أسراره السينمائية الخاصة، منها تعمّقه بتفاصيل حملها معه من حقل عمله الصحفي وثقافته الاستقصائية، وتوظيفها في لاوعي فني من جديد، وليس الإلمام بجوانبها الإعلامية فقط لتقدم الفيلم النوعي المشتبك بالواقع، مثل: “يحدث في غيابك”، ومغرياً سيف الدين سبيعي بالإخراج.
“مشعورٌ جسد الوردة،
ومصابٌ مثلي بالرضوض والكدمات..
الدليل الوحيد على قلبها العصفور
داخل قفصها الصدري المليء بالأغاني،
الأغاني المحفوظة من على شريط كاسيت
يومها كان العالم بشبهنا،
وكانت القصائد
تُكتب على ورقٍ أسمر
وكذلك مذكّرات التوقيف!”
أما السرّ وراء تنفيذ أعماله، فهو ذكاؤه الشخصي أولاً في اختيار أعمال ممكنة الإنتاج، كبداية لا تفترض الأكلاف الغنية، كالاعتماد على ممثلين داخل منزل متواضع واحد، أو وعي اللحظة الإنتاجية المطلوبة ثم المسارعة إلى تنفيذها دون تأخير، مشاركاً الفنان السوري معاناة هموم مهنته وفقر فرصه.. ولعلَّ أهم أسراره التخطيط الدائم لتقديم عملٍ مدهش الحضور مرن التنفيذ، ممكن التنقل والانتشار متخطياً التابو السياسي العربي.
وتضيف كامل: ربما سيعلّق البعض بأنّه يجيد انتهاز التوقيت واصطياد الفرص المناسبة، لكنها الجهوزية المستندة إلى غنى تجربة إعداد الذات والدأب اللامنقطع، وإتقان العمل في حقولٍ متنوعة، والتصويب إلى هدف ينضج بالممارسة، دون تجاوز ضرورة الارتجال في لحظةٍ ابداعية زلقة محلياً وعربياً.
وسامر إسماعيل؛ كاتب وسيناريست له العديد من الأعمال التي كتبها للسينما والتلفزيون منها: سلّم إلى دمشق- روائي طويل مع المخرج محمد ملص- جائزة مهرجان مونبيلييه بفرنسا، ماورد- روائي طويل- جائزة أفضل فيلم أول في مهرجان إسكندرية السينمائي، حنين الذاكرة- روائي طويل، حمراء طويلة- روائي طويل- حاز عليه جائزة نيويورك لأفضل فيلم، لآخر العمر- روائي طويل، يحدث في غيابكَ- روائي طويل، حيّ المنازل- روائي طويل، وعد شرف- روائي متوسط، على سطح دمشق- روائي قصير، توتّر عالي- روائي قصير، نهري بحري- روائي قصير، لم شمل- وثائقي طويل.. كتب للتلفزيون سيناريو مسلسل “ضيوف على الحب”، ولعبة الموت والحب- مسلسل (30) حلقة..
“مؤخراً فقط
امتنعتُ عن تناول أزرارَ ثيابكِ
كحبوبِ الأسبرين،
وعن التفكير بكِ كامرأةٍ ميتة
داخلَ شاحنةٍ لنقل الطيور المثلّجة..
مؤخراً فقط
عدَلتُ عن النوم في خزانة ثيابكِ،
وعن تقليدِ خطِّكِ على وصفات الدواء..
أنا الرجل الملقّب بطبّاخِ روحِه
“مشكولٌ” ظهري
و”مشكولةٌ” كلماتي
ولا “يلتكشُ” بي أحد
سوى هذا الأبد.”
عن بعض هذا المنجز؛ يقول الشاعر الدكتور عصام التكروري: برأيي الشخصي، ما لم تكن القصيدة برقة الفراشة وفراسة النصل، فهي تبقى ضمن إطار التزيين اللفظي الذي لا يضيف للشعر شيئاً، مع أنها تظل قصيدة، كأنها قصيدة تنتمي إلى الشعر بمقدار ما تنتمي الموسيقا العسكرية إلى عالم السحر، وسامر محمد إسماعيل هو من الشعراء القلائل الذين وَعوا هذه الحيثية الفريدة في الشعر، أقول “شعراء قلائل” لكنهم بحق “القِلّة الوافرة” التي تشعر بمسؤولية عالية تجاه الكلمة الولّادة للمعاني التي تمُج الحكمة الأصمعية وتنحو صوب رؤية العالم بسريرة طفل.. هكذا قصيدة سامر ونصه النثري. في الصحافة كما في النقد والمسرح وقبلهم الشعر يتدفق وميض الكلمة لدى سامر ثرّاً كثيفا وكأنه يقول لك: لا وقت لديّ لشرح المعنى، التقطه مني ولا تناقشه بعقلك، فقط لوّحه في خيالك وخذه هكذا دفعةً واحدة “كعبها أبيض”، التقطه ولوّحه كما تلّوح الأم الرغيف الأول الخارج من التنور وتدفع به وسط أطفال يتناهبونه بفرح ناسين ما حفلت به الأطباق حتى لو كانت وهماً.
نص سامر كما اليد التي تجس عظام أحلامنا لتغرز إصبعها في مكامن انكساراتنا، لهذا السبب لا يتركك نص سامر محايداً، تحاول مراراً الفكاك من سطوته فتتذكر متعة ملامسة الانكسار، تعود لتكمله متوقعاً بأن يمنحك السلوى، وإذ بإصبع فولاذية تنغرز في فالق الكسر، تتوقف، ومن ثم تتابع لتصل النهاية وأنت تقول: “ياه.. ثمة من وشى بحالي إليه فكتبني”، هذا الأمر تعيشه مع “متسول الضوء” و”فهرس لأسمائك الحسنى”.. أما في عمله الأخير “تمارين سويدية على الأمل” (عنوان أولي ـ ينتظر النشر) فتكتشف كم أصاب عضلات التوق لديك من ضمور.
دائما أتساءل عن نوع الأحلام التي يراها هذه الرجل ليُسلي رؤوسنا بالصداع كمن “يطعم الأسماك الحمراء حبوب الفاليوم”، تلك “الأسماك التي نضع الليمون على عيونها المشوية وتحدق إلينا الآن”، أي قدرة لديه على تركيب الصور المتناقضة ليجعلك أمام تيار جديد بالدادائية، تيار يتجاوز بروتون وتسارا، فالأمر لديه لا يتعلق بمجرّد الوصف، بل بإعادة تركيب المشهد لتراه.
معرض الصور:
المصادر والمراجع:
مواقع تواصل إجتماعي