*كتب الناقد السوري:سعد القاسم.عن الأستاذ (ميلاد الشايب)..ما زالت..ألا ترى.
ميلاد الشايب وسعد القاسم.الناقد السوري الذي كتب:ما زالت..ألا ترى.
ميلاد الشايب وسعد القاسم
ما زالت.. ألا ترى؟
إضاءات
سعد القاسم
ما أن تلاقي عيناك اسمه في أقصى زاوية (الأيقونة) الشامخة على الجدار العتيق، حتى تنتزعك صورته
من راهن لحظتك لتعود بك عشرات السنين إلى تلك اللحظة التي كان فيها وجهه أول من رأيت في المبنى القديم الحميم لكلية الفنون الجميلة،
المكتظ بعشرات القادمين الجدد إليها يسألون في اللحظة ذاتها السؤال ذاته:
هل هذا هو الأستاذ (ميلاد الشايب)؟
دون أن يكون أي منهم بحاجة للجواب فكل التفاصيل الفريدة التي عرفوها عنه من زملائهم الأقدم تجعلهم على يقين بأنهم أمام ابن معلولا الأصيل، والأصيلة،
الذي يمنح مهنة المعلم نكهة أبوية تدوم لزمن لا يدركه أحد.
من حيث تريد، أو لا تريد، ستعيش تلك اللحظات المملوءة بالفرح والأمل والطموح وتوثب الشباب،
حين تتدافع من ذاكرتك بحيوية مبهرة الصور العتيقة لتلك المرة الأولى التي أدهشتك فيها البيوت الطينية الزرقاء المتعانقة بمحبة، متسلقة فوق بعضها البعض..
الصخور العملاقة المتبدلة اللون مع تبدل مكان الشمس في سماء تنافس البيوت في جمال زرقتها و في دفئها العميق، حتى في أكثر الأيام برودة.
وابن (معلولا) الأسمر العملاق يجول بين طلابه مانحاً معرفته وخبرته وحنانه،
وكأنه يرعى أطفالاً صغاراً لا طلاباً جامعيين، والأعجب أن اعتداد هؤلاء بأنفسهم لا يحول دون الاستسلام ،برضا، لحالة طفولة تشوقوا باكراً لمغادرتها.
يحضر أمام عيون ذاكرتك دير الفارس السوري القديس (سركيس)، أقدم المعابد السورية،
بكل تفاصيل أيقوناته التاريخية النادرة، وبوابته الخشبية العتيقة، وحجارته التي تحكي تاريخ هذه البلاد، ومذبحه القديم، وجرن التعميد النحاسي العملاق.
وتسمع صوت الكاهن يردد أمام ضيوف جاؤوا من كل أنحاء سورية صلاة محبة باللغة التي تكلم بها السوري العظيم السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وتعبر الفج الجبلي الشهير مستعيداً
حكاية القديسة (تقلا)
التي انشق لأجلها بأمر الله، مانحاً إياها فرصة النجاة من مطارديها القتلة الذين لم تتقبل عقولهم المتخلفة المغلقة اختلاف قناعاتها عن قناعاتهم.
وترتقي الدرج العالي للدير الكبير الذي شيّد تكريماً لذكراها لتصل إلى جمع المؤمنين المنتظرين أمام جرن الماء المنحوت في قلب الصخر بأمل الظفر ببعض من الماء المقدس.
يغالبون وقت الانتظار بتلاوة الصلوات أمام ذات الأيقونة التي تقف أمامها الآن..
في هذه اللحظة تستعيدك قسوة الحاضر من جمال ذكريات الماضي حين تصدمك بشاعة التخريب الذي ألحقه القتلة بتلك الأيقونة المتحدة بالجدار حين فشلوا بسرقتها،
فتستعيد هذه المرة شريط ذكريات مختلف للغاية، تتذكر حكايات الجرائم التي ارتكبها الظلاميون بحق البلدة الوادعة وأبنائها الطيبين،
وذلك القاتل الذي ترك أهله يتعرضون كل لحظة للإذلال واغتصاب الحقوق من جنود العدو الصهيوني المغتصب، وجاء متسللاً إلى (معلولا) ليفجر نفسه بحاجز للجيش الوحيد الذي ما زال يواجه ذلك العدو.
دير مار سركيس:
و كيف حلت الصور المنسوخة في دير (مار سركيس) محل الأيقونات التاريخية الأصيلة التي لا يعرف أحد بأي بلاد حلت، مثلها مثل باقي كنوز الدير العتيق.
أمام الأذى الذي لحق بالأماكن المقدسة والبيوت القديمة، وقلوب الناس المحبة، لن يشغلك الخراب الذي أصاب فندق المدينة السياحي، فهو بكل الأحوال حديث العهد، لا يملك ذاكرة غنية.
تهبط الدرج العالي ثم تتوقف أمام أيقونة من الفسيفساء أبدعها فنان معاصر لم تنج بدورها من روح الخراب الهمجية، تجلس على مصطبة حجرية تقارن من حيث لا تريد كيف كانت البلدة العريقة، وكيف صارت،
وأنت تفتقد حرارة جموع الزوار الذين كانوا يملؤون المكان منذ سبع سنوات.
ترقب بغير تركيز امرأتين في الخمسينات جاءتا للحصول على الماء المقدس، وحين تصلان إلى حيث تجلس وأصدقاؤك تمدان أيديهما إليكم ببضع حبات من المشمش قطفنها للتو من شجرة في أعلى الدير،
تقاليد الضيافة:
يضيء الأمل في روحك من جديد يذكرك بتقاليد الضيافة الراسخة في أهل (معلولا) وبراعي دير (مار سركيس) الذي استبقاكم، بحزم و حنان أبوي،
قبل ساعات قليلة على مائدة طعامه المصنوع أكثره مما زرعه بنفسه في المصاطب الجبلية المحيطة بالدير،
ويذكرك بمضيفك الدكتور (فادي) بروحه المحبة للحياة، وأحاديثه الشيقة الثرية التي تتغلب على ألم فقدان أبناء عم كانوا ضحايا للإجرام الوحشي،
ويذكرك أنك موجود هنا الآن بدعوة من الموسيقي البارع (حسام الدين بريمو) لحضور حفل لجوقتي (الشام) و(قوس قزح)
في ساحة دير القديسة (تقلا)، لتشاركه خوفه قبل الحفل من ندرة الحضور،
ثم قلقه قبيل الحفل من كثرة الأطفال الذين قدموا إلى الساحة،
ثم ابتهاجه طوال الحفل بالتفاعل الساحر من جمهور الأطفال والكبار وهم يستمعون إلى أفراد الجوقتين يؤدون بجمال أخاذ بعضاَ من أجمل ما تحفظه الذاكرة من أغانينا الأصيلة.
اغاني بتلآرامية:
بعض الأغاني كانت بالآرامية، اللغة التي تفخر (معلولا) بأنها ما تزال تحكي بها، وبعض مظاهر الفخر أعلام ورقية صغيرة ملونة قدمها للحضور أطفال صغار يتعلمون لغتنا التاريخية العريقة، وقد كتب على وجهي العلم بالعربية والآرامية:
«بعد آلاف السنين (معلولا) ما زالت تتكلم بالآرامية…. أترى؟»
نعم رأيت وشعرت لا بالفخر فحسب، وإنما بالامتنان لكل من أضاء شمعة في وجه الظلام، وبالتقديس لكل شهيد من معلولا وسورية كلها، فدى بدمه تلك الحالة السورية الجليلة.
http://www.thawra.sy/_View_news2.asp?FileName=16925122320170704004810
*
المصدرfotoartbook