بقلم د.علي خليفة
شعرت وأنا أقرأ هذه المسرحية أنها أقرب ما تكون لمسرحيات إبسن الواقعية ذات الرموز والإحالات وفيها نرى في بدايتها النفوس الإنسانية متقنعة بأقنعة زائفة ما تلبث أن تتساقط عنها ونرى حقيقتها وتراها هي نفسها ويكون للمجتمع الذي تعيش فيه نظرة أخرى لهؤلاء الأشخاص الذين انكشف زيفهم كما نرى في مسرحية أعمدة المجتمع.
وليس في هذه المسرحية ما نراه من تجارب بيرانديللو في الكتابة المسرحية فليس فيها التمثيل داخل التمثيل كما في مسرحية ست شخصيات تبحث عن مؤلف ومسرحية الليلة ترتجل التمثيل وليس فيها أيضا شخص يعيش في شخصية غير شخصيته الحقيقية ويجبر من حوله على أن يمثلوا هم أيضا شخصيات أخرى غير شخصياتهم الحقيقية كما نرى في مسرحية هنري الرابع ففيها نرىشخصا يدعي أنه مجنون وأنه ينتحل شخصية هنري الرابع ليجبر من حوله على أن يعاملوه على أنه ذلك الملك الفرنسي القديم ومن هنا فهو يعيش في شخصية غير شخصيته ويجبر من حوله على أن يمثلوا هم أيضا أمامه دور المحيطين بهذا الملك الكبير الشأن أما في مسرحية العرايا التي قلنا إنها ليس فيها تجريب في الشكل فبناؤها إبسني واقعي.
في هذه المسرحية نرى فتاة -هي إرسيليا -توهم من حولها عند انتحارها أنها شهيدة ظلم بعض المقربين منها كخطيبها فرانكو الذي تركها بلا أسباب وخطب غيرها والسيدة التي كانت تخدم في بيتها -أو تعمل وصيفة به – فقد قالت في الرسالة التي كتبتها قبيل انتحارها إنها كانت تشق عليها خلال عملها في بيتها وتضطهدها وكذلك نالت في هذه الرسالة من زوج هذه السيدة وهو القنصل كروتي.
و يتصادف أن يتم إنقاذ هذه الفتاة ويتعاطف كثير من الناس معها لظنهم أنها عانت في مجتمعها من خيانة خطيبها وسوء معاملة القنصل كروتي وزوجته لها وأنها حين لم تجد ما تملأ به معدتها من طعام وما تسد به دين الفندق الذي تقيم فيه انتحرت -وقد كتبت هذا في رسالتها سابقة الذكر-
ويستضيفها مؤلف كبير في بانسيون يعيش فيه بعد تماثلها للشفاء وخروجها من المستشفى التي عولجت فيها راغبا من وراء ذلك في معرفة أسرار حياتها لعل ذلك يدفعه لكتابة مسرحية أو رواية عنها- ومع ذلك فلا يخفى تعاطف المؤلف معها لتصديقه ما قالته عن ظروف انتحارها في رسالتها التي كتبتها فبيل انتحارها
– وتظن صاحبة البانسيون أن إرسيليا فتاة ساقطة أتى بها المؤلف فتعنفه وتعنفها ولكنها حين تعلم أنها الفتاة التي حاولت الانتحار وانتشرت أخبارها في الجرائد تتعاطف معها ويأتي إرسيليا في البانسيون خطيبها السابق فرانكو وترفض مقابلته ونراها تنهار بقدومه ويأتيها في اليوم التالي وتقابله ويعتذر لها ويقول إنه قد نبذه الناس بعد علمهم بأخبار انتحارها واتهموه بأنه السبب في هذا وأن خطيبته الجديدة رفضته ثم يقول لإرسيليا إنه نادم ويرغب في الزواج منها ليكفر عن خطئه معها وليستطيع التواصل مع المجتمع بعد نبذه له لعلمه أنه السبب الأساسي في انتحار إرسيليا ثم يأتي القنصل كروتي للبانسيون ونراه أمام الجميع ممن في البانسيون يُتهم إرسيليا أنها عرضت به وبأسرته في الجرائد والمجلات ولا بد أن تكذب هذا ثم حين يختلي بها نكتشف أن كل ما ذكرته إرسيليا من قبل عن أسباب انتحارها كان خداعا ورغبة منها في الانتقام فقد كانت عشيقة القنصل كروتي وجسدها المشتعل بالشهوة كان يستجيب لرغبة القنصل فيها وقد كان موت الطفل الصغير ابن القنصل لأن القنصل رغب فيها في وقت كان ابنه في الشرفة ويعرض نفسه للخطر بها فتركاه استجابة لشهوتهما وسقط الطفل ومات وشاهدت زوجة القنصل الفعل الفاضح بين زوجها وإرسليا ولم يمكنها اتهام إرسيليا بالتقصير الذي أدى لموت ابنها حتى لا يتورط زوجها في القضية ويشهر به وبعد أن يعرضا هذا الماضي المخزي لهما يهجم القنصل على إرسيليا لينال منها ولكنها تصده.
وتتطور الآحداث فيعرف فرانكو من زوجة القنصل حقيقة أسباب انتحار إرسيليا وكذبها ويذكر ما عرفه للمؤلف وصاحبة البانسيون فتتغير صورتها عندهم وتغيب إرسيليا عن البانسيون فترة ثم نراها تدخل شاحبة وتخبرهم أنها انتحرت مرة أخزى ولا ترغب أن ينقذها في هذه المرة أحد ثم تقول لهم إن مافعلته فيما أشاعته عن نفسها في المرة الأولى في رسالتها لم يزد عن محاولة لتجميل صورتها كما تفعل المرأة وهي تضع مساحيق التجميل في وجهها وتقول أيضا إنه لا يوجد أحد لا يحاول تجميل نفسه بوسيلة أو أخرى ثم تموت وبهذه النهاية نرى المؤلف يتعاطف مع إرسيليا ويرغب في أن يجعل القارئ يتعاطف معها فهي -في رأيه -لا تختلف عن كثير من الناس الذين يحاولون بكذبهم أن يحسنوا أنفسهم ثم هي بسقوطها تقول إن نار الشهوة في جسدها هي التي أسقطتها في الغواية أما عقلها فكان دائما منشغل البال بخطيبها وحين علمت أنه تركها رغبت في الانتقام منه فادعت في رسالتها أنه بقطيعته لها دفعها للانتحار لاسيما بعد طردها من بيت القنصل وإحساسها بالفقر والضياع.
ولا تقنعني مبررات بيرانديللو للتعاطف مع هذه الفتاة فالإنسان يستطيع أن يسيطر على ملكاته ويضبط مسار شهوته فيمن تحل له وإلا صار كالحيوان الذي ينال شهوته بلا قيود وكذلك الكذب خطأ وقد يكون خطيئة لا يمكن تبريرهاوبعد فأنا أظن أن إحسان عبد القدوس تأثر بهذه المسرحية في قصة أنا لا أكذب ولكني أتجمل وكذلك أظن أن توفيق الحكيم تأثر بهذه المسرحية في مسرحية سر المنتحرة.


