كتب:د.عصام عسيري عن”سيميائية الألوان” Color Cemiotics.وكيف يتحول الأحمر من لون إلى صرخة.

سيميائية اللون: حينما يُنطق الضوء لغةً لا تتقنها الكلمات

د. عصام عسيري

في البدء كان النور، ومن رحم الضوء ولدت الألوان لتشكل الأبجدية الأولى التي قرأتها عين الإنسان قبل أن ينطق بكلمة واحدة. ليست الألوان مجرد أصباغ تكسو الأشياء، وليست مجرد موجات ضوئية تتسابق في الفيزياء؛ إنها في عرف الفن والثقافة “نصٌ” كامل، وشفرة سرية، ولغة رامزة تسمى “سيميائية الألوان” Color Cemiotics. في هذه المساحة، نحاول فك شفرة هذه اللغة الصامتة، لنفهم كيف يتحول “الأحمر” من مجرد لون إلى صرخة، وكيف يصبح “الأزرق” معادلاً موضوعياً للعزلة أو القداسة.

شفرة اللون بين الدال والمدلول:

تعلمنا السيميائيات أن العلامة تتكون من “دال” (الشكل المرئي) و”مدلول” (المعنى الذهني). وفي عالم الفن التشكيلي، يمارس اللون سلطة طاغية في توجيه المعنى وفهم العمل. اللون لا يأتي بريئاً أبداً؛ إنه محمل بإرث ثقافي اجتماعي وتاريخي ونفسي. حين يختار الفنان لوناً ما، فهو يختار مفردة من قاموس ضخم ليخاطب ذاكرة المتلقي.

إن سيميائية اللون تبحث في “لماذا” هذا اللون هنا؟ هل هو لمحاكاة الطبيعة؟ أم لكسر المألوف؟ أم لترسيخ رمزية دينية أو سياسية؟ هنا تتحول اللوحة إلى ساحة حوار بين بصر المشاهد وبصيرته.

الصراخ والسكينة في فرشاة الفنان:

في الفن الغربي، تحولت الألوان عبر العصور من وظيفة التزيين ومحاكاة الواقع إلى وظيفة التعبير الصارخ عن الذات القلقة.

لنتأمل تجربة فينسنت فان جوخ (Vincent van Gogh)، وتحديداً في لوحته الشهيرة “آكلو البطاطا” ومن ثم انتقاله إلى “دوار الشمس”. في الأولى، استخدم ألواناً ترابية داكنة، بنية وخضراء شاحبة، ليرسخ سيميائية “الفقر” والالتصاق بالأرض والمعاناة. اللون هنا كان علامة على “الخشونة”. لكنه في “دوار الشمس” أو “البيت الأصفر”، فجر طاقة الأصفر الكرومي. الأصفر عند فان جوخ لم يكن لون الشمس فحسب، بل كان “دالاً” على الجنون، العبقرية، والقداسة المتوترة. سيميائية الأصفر هنا تخرج من دلالة الفرح التقليدية لتدخل في دلالة “القلق الوجودي”.

وفي الضفة الأخرى، نجد بابلو بيكاسو (Pablo Picasso) في مرحلته الزرقاء قد ألغى كل الألوان لصالح الأزرق البارد. في لوحة “عازف الجيتار العجوز”، لا يمثل الأزرق لون السماء أو البحر، بل يتحول سيميائياً إلى مرادف للعدم، البرد، الفقر، والموت البطيء. لقد جرد بيكاسو العالم من حرارته اللونية ليقول لنا: “هذا هو طعم الحزن”.

أما هنري ماتيس (Henri Matisse) في لوحته “الغرفة الحمراء”، فقد كسر القواعد. الأحمر هنا ليس دماً ولا خطراً، بل هو احتفال بصري، طاقة مسيطرة تلغي الفراغ وتعلن انتصار “اللون” على “الخط”. سيميائية الأحمر هنا هي “الحياة الصاخبة”.

ختامًا، اللون كمرآة للروح
إن سيميائية الألوان تعلمنا أن العين لا ترى فيزياء اللون، بل ترى ثقافته. فالأبيض الذي يعني النقاء والعروس في الغرب، قد يعني الحداد والموت في ثقافات شرقية قديمة. والأخضر الذي يرمز للطبيعة عالمياً، يحمل في الوجدان العربي والإسلامي شحنة قداسة خاصة (الجنة، القباب).

في النهاية، يقف الفنان أمام لوحته كخيميائي ساحر يمزج الأكاسير، لا ليرسم شكلاً، بل ليبعث رسالة، فكرة، شعور. إن قراءة اللوحة دون فهم سيميائية ألوانها تشبه قراءة قصيدة بلغة نجهل مفرداتها؛ قد نستمتع بإيقاعها، لكننا لن ندرك أبداً عمق معناها وجرح كاتبها. الألوان هي أصوات الفنانين التي لم يكتب لها أن تُسمع، بل كُتب لها أن تُرى.

أمتعونا بألوانكم وأعمالكم التي تتحدث عنكم في التعليقات.
🌹🌺💐🌺🌹

أخر المقالات

منكم وإليكم