كيف تحصل على الدكتوراة؟
د. عصام عسيري
قراءة أكاديمية موسّعة في فلسفة التعليم العالي ورحلة الدكتوراه ومتطلبات البحث العلمي
يأتي كتاب “How to Get a PhD: A Handbook for Students and their Supervisors” للمؤلفين Estelle M. Phillips و Derek S. Pugh بوصفه أحد المراجع الأكاديمية الأكثر تداولاً وتأثيراً بين طلبة الدراسات العليا والباحثين والمشرفين في مختلف الجامعات حول العالم. وقد اكتسب الكتاب مكانته الاستثنائية لأنه لم يكتفِ بوظيفة الدليل الإجرائي، بل قدّم رؤية تحليلية عميقة لطبيعة الشهادات الأكاديمية، وللفروق الفلسفية بين مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وللعملية البحثية بوصفها فضاءً معرفياً وإدارياً ونفسياً معقداً.
هذا المقال يعرض قراءة موسّعة للكتاب، ويحلل أبرز أفكاره حول رحلة البحث العلمي، ويضيء على الفلسفات التربوية التي تقوم عليها الشهادات الجامعية العليا، إضافة إلى التمييز بين أنواع شهادات الدكتوراه كما عالجها المؤلفان.
أولاً: فلسفة البكالوريوس والماجستير بوصفهما تمهيداً للدكتوراه
- البكالوريوس: مرحلة اكتساب المعرفة لا إنتاجها
يضع الكتاب أساساً مهماً لفهم الدكتوراه عبر تحليل الفروق بين مراحل التعليم. فمرحلة البكالوريوس تُعدّ، في جوهرها، مرحلة تلقي وتنظيم للمعلومات، وتطوير للمهارات الأساسية، مثل:
الفهم والتحليل الأولي، الكتابة الأكاديمية البسيطة، الالتزام بالمقررات والمناهج المعيارية.
في هذه المرحلة، لا يُطلب من الطالب إنتاج معرفة جديدة، بل يُتوقع منه أن يتقن أدوات الفهم، وأن يصبح قادراً على العمل ومتابعة النقاشات الأكاديمية والعملية داخل التخصص. لذلك، فإن أهم أهداف البكالوريوس هي تكوين قاعدة عامة من المعرفة والمهارات والقيم من أجل التخصص في العمل.
- الماجستير: بداية التفكير البحثي المنظم
أما الماجستير فيمثّل انتقالاً من استهلاك المعرفة إلى تحليلها وإعادة صياغتها. ويرى المؤلفان أن الماجستير يقدم للطالب تدريباً أولياً في عناصر البحث، من خلال:
فهم الأدبيات، إعداد مشروع بحثي محدود، تطوير مهارات النقد والمنهجية.
لكن الماجستير، رغم ذلك، لا يشترط إسهاماً معرفياً جديداً بالمعنى الكامل، بل يهدف إلى تثبيت المهارات البحثية وتطوير القدرة على التعمّق في موضوع محدد. وهنا يضع الكتاب الفلسفة الأساسية: البكالوريوس يتعامل مع المعرفة القائمة، والماجستير يتعامل مع فهم المعرفة، أما الدكتوراه فتتعامل مع إنتاج المعرفة ذاتها.
ثانياً: مفهوم الدكتوراه وإطارها الفلسفي
ينطلق الكتاب من السؤال الأكثر مركزية: ما الذي يجعل الدكتوراه مختلفة؟
تأتي الإجابة من زاويتين:
- الدكتوراه تدريب على إنتاج معرفة جديدة
يشدد المؤلفان على أن الدكتوراه ليست شهادة مهنية ولا دورة تدريبية مطولة، بل هي عملية فكرية لإنتاج معرفة أصيلة عبر طرح سؤال بحثي لم يُجب عنه من قبل، أو تقديم معالجة جديدة لسؤال قائم وتوظيف النظريات والتقنيات الجديدة في المجال.
هنا تظهر الخصائص الأساسية للدكتوراه:
الاستقلالية، الأصالة، القدرة على النقد، الإسهام في تطوير الحقل العلمي. - الدكتوراه تجربة ذهنية طويلة المدى
يدعو الكتاب إلى النظر إلى الدكتوراه بوصفها “رحلة عقلية”، تتضمن:
بناء مهارات التفكير، الاستمرارية والالتزام، تجاوز العقبات النفسية،
الاندماج في بيئة أكاديمية واسعة.
وهو ما يجعلها، في جوهرها، تجربة تتجاوز النص المكتوب إلى تشكيل شخصية الباحث ذاته.
ثالثاً: أنواع شهادات الدكتوراه
يُبرز الكتاب أهمية التمييز بين الأنواع المختلفة للدكتوراه، لأن هذا التمييز يؤثر في منهج البحث وطبيعة الإضافة العلمية.
- الدكتوراه البحثية (PhD)
وهي الأكثر شيوعاً، وتقوم على:
مشروع بحثي كامل،
إسهام معرفي جديد،
أطروحة مطوّلة تناقش أمام لجنة أكاديمية.
تمثل PhD أعلى درجات التدريب على البحث العلمي. - الدكتوراه المهنية (Professional Doctorate)
مثل:
EdD في التربية،
DBA في إدارة الأعمال،
DNP في التمريض.
تركّز هذه الشهادات على حل المشكلات المهنية باستخدام البحث العلمي، وغالباً ما تكون موجهة للعاملين في القطاعات التطبيقية.
- الدكتوراه بالممارسة الإبداعية (Practice-Based Doctorate)
تظهر في مجالات الفن والتصميم والعمارة، ويكون الإسهام المعرفي فيها مزيجاً من:
الممارسة الفنية، التحليل النظري، توثيق العملية الإبداعية كمنهج بحثي. - الدكتوراه عبر المنشورات (PhD by Publication)
تمنح للباحثين الذين يمتلكون مجموعة منشورات علمية محكّمة تُظهر إسهاماً معرفياً متماسكاً، وهي أكثر شيوعاً في بعض الجامعات الأوروبية.
رابعاً: العلاقة بين الطالب والمشرف
يرى المؤلفان أن العلاقة بين الطالب والمشرف هي المحور الأكثر تأثيراً في مسار الدكتوراه. وتتمثل أهم الإشكالات في:
- غموض التوقعات.
- الإفراط في الاعتماد على المشرف.
- ضعف الاتصال والمتابعة.
- سوء فهم دور كل طرف.
ويؤكد الكتاب أن المشرف ليس معلّماً مباشراً، بل شريك في الرحلة، يقدّم التوجيه والنقد دون أن يقوم مقام الباحث. ويقترح وضع خطة واضحة للاجتماعات، وتوثيق النقاط البحثية، وتحديد المهام ومسارات الوقت.
خامساً: إدارة الوقت ومنهجية البحث
يولي الكتاب اهتماماً واسعاً لإدارة الوقت، لأنها العامل الأكثر حسماً في إكمال الدكتوراه. ويؤكدان أن النجاح يتحقق عبر:
التخطيط الأسبوعي، تقسيم المشروع لأجزاء، الالتزام اليومي بالقراءة والكتابة، عدم انتظار الظروف المثالية.
وفي منهجية البحث، يقدّم الكتاب إرشادات حول:
فهم الأدبيات السابقة، تحديد الإطار النظري، بناء المنهج، تصميم أدوات جمع البيانات، التحليل والتفسير.
ويشير المؤلفان إلى أن الباحث الجيد هو من يعرف كيف يربط المشكلة بالأدبيات والدراسات بالمنهج بالنتائج في بنية واحدة منطقية.
سادساً: كتابة الأطروحة والعقبات النفسية
تُعدّ الكتابة محور الدكتوراه، ويشدد المؤلفان على أن الأطروحة ليست “عمل كلي” يُنجز مرة واحدة، بل مسودات متتابعة تُصقل تدريجياً. من أبرز العقبات التي يناقشها الكتاب:
القلق البحثي، الكمال المبالغ فيه، فقدان الدافع، الإحباط من بطء التقدم.
ويقترح حلولاً عملية، منها الكتابة اليومية، وعدم القلق من ضعف المسودة الأولى، والاعتماد على التغذية الراجعة المنتظمة.
سابعاً: التقييم والمناقشة
يرى المؤلفان أن المناقشة (Viva) ليست امتحاناً مخيفاً، بل حوار علمي حول الأفكار، ويجب الاستعداد لها عبر:
فهم أطروحتك بعمق، توقع الأسئلة المحتملة، معرفة نقاط القوة والضعف، القدرة على وضع البحث في سياقه الواسع.
ثامناً: البيئة الأكاديمية والمهارات المهنية
ينظر الكتاب إلى الدكتوراه كجزء من منظومة أكاديمية واسعة تتضمن: المؤتمرات، شبكات البحث، النشر العلمي، مهارات العرض، التعاون البحثي.
ويشدد على أن الباحث الناجح لا ينعزل، بل ينخرط في حوار فكري مع مجتمعه العلمي.
ختامًا: يمثل كتاب “How to Get a PhD” عملاً مرجعياً شاملاً لا يقدم خطوات عملية فحسب، بل يبني فهماً فلسفياً لمراحل التعليم العالي وطبيعة البحث العلمي. وقد نجح المؤلفان في تحليل جوهر الدكتوراه كممارسة معرفية طويلة المدى، وفي كشف التوقعات الحقيقية التي ترافق هذه التجربة، وفي تقديم أدوات عملية للتعامل مع مشكلات الوقت والعلاقات الأكاديمية والكتابة والمنهجية.
إن القيمة العليا لهذا الكتاب تكمن في قدرته على تفكيك التعقيد الذي يحيط برحلة الدكتوراه، وعلى مساعدة الطالب والمشرف في بناء فهم مشترك لطبيعة هذه الرحلة ومتطلباتها الفكرية، والنفسية، والإدارية. لذلك سيظل هذا الكتاب واحداً من أهم المراجع التي يمكن الاعتماد عليها في تأهيل الباحثين وتعزيز جودة الإشراف الأكاديمي في الجامعات.


