محمد البكري…
حين يتعب القلب لأن الضمير كان ممتلئًا…
لم يكن محمد البكري مجرّد فنانٍ يمرّ في الذاكرة.
كان إيقاعًا داخليًا… يشبه نبضًا يعرف مسبقًا أنه مُهدَّد، لكنه يصرّ على الاستمرار.
كان يُقال همسًا إن قلبه متعب، ضعفٌ في عضلة القلب، كأن الجسد التقط مبكرًا ما لا تحتمله الأرواح الثقيلة.
وهنا، دون قصد، كان محمد يقترب أكثر من محمود درويش.
ليس فقط في المرض، بل في النبرة.
حين كان محمد يلقي نصوصه على الخشبة، كنت تشعر أن محمود يقف خلفه، لا كشاعرٍ يُستعاد، بل كصوتٍ يسكن الجملة.
كان الإلقاء عند محمد فعلًا وجوديًا، لا أداءً مسرحيًا؛ كأن القصيدة تمرّ عبره لا ليجسّدها، بل ليحميها من الزيف.
وأظن، بل أكاد أجزم، أن إميل حبيبي لم يؤثّر في محمد وحده، بل في جيلٍ كامل تشكّل وعيه بين السخرية والوجع، بين «المتشائل» بوصفه موقفًا فلسفيًا، وبين الانتماء الإنساني الذي لا يساوم على كرامته.
محمد، مثل محمود، كان ابن هذه المدرسة:
أن تكون ساخرًا لا يعني أن تتنازل،
وأن تكون بسيطًا لا يعني أن تكون سطحيًا.
عرفتُ محمد البكري مبكرًا، حين استضفناه في قبرص وقدّم عروض مسرحية «المتشائل».
هناك، خارج فلسطين جغرافيًا، لكن داخلها روحيًا، تحدّثنا طويلًا عن همّ الفنان الفلسطيني في الداخل، عن فلسطين 48، عن الجوع الصامت، عن ضغط الحياة الذي قد يدفع الفنان أحيانًا إلى أعمال لا تشبهه، لا خيانةً، بل حفاظًا على العائلة، على البيت، على الاستمرار.
لم يكن محمد يبرّر؛ كان يشرح الواقع كما هو، بلا رتوش.
وكان واضحًا في إدراكه للفخّ الأكبر: أن تتحوّل السينما إلى أداة لإعادة كتابة التاريخ.
لهذا، كلما عمل، كان يسأل نفسه السؤال الأصعب: لمن هذه الصورة؟ ومن تخدم؟
ربما لهذا، حين خرج إلى السينما العالمية، وحين عمل مع المخرج اليوناني الكبير ثيو أنجيلوبولوس، لم يكن حضورًا عابرًا.
أثبت محمد أن الممثل الفلسطيني ليس «حالة سياسية» فقط، بل قيمة فنية كاملة، قادرة على الوقوف بثبات داخل سينما كونية عالية الحساسية.
وجوده في أفلام مخرجين كُثُر لم يكن تفصيلًا؛ كان قيمة مضافة حقيقية.
حتى إن بعض الأفلام، بضعفها التقني أو الموضوعي، ارتفعت فقط لأن محمد كان فيها.
كان حضوره يمنح العمل وزنًا أخلاقيًا، كأن الكاميرا تصبح أكثر صدقًا حين تمرّ عبره.
ثم جاء جنين جنين.
هنا لم يعد محمد ممثلًا أو مخرجًا فقط، بل صار شاهدًا.
الفيلم لم يكن مجرد وثيقة، بل كسرًا صريحًا لاحتكار الرواية.
لهذا حوكم.
لا لأن الفيلم ضعيف، بل لأنه كان صادقًا أكثر مما يحتمل الاحتلال.
المحاكمة حولته، دون أن يقصد، إلى أيقونة وطنية، إلى فنان يُلاحق لأنه قال: هذا إنسان، وهذا دمه، وهذه حكايته.
قبل رحيله بأسابيع قليلة، اتصلت به لأدعوه إلى عرض صوت هند رجب.
حديثنا انفتح فورًا على غزة.
قال لي بهدوئه المعهود: طوال الحرب كان يتواصل مع أصدقاء هناك، يطلب منهم أن يصوّروا.
قصف، دمار، فقدان، جوع، لحظة ارتجاف، صمت بعد انفجار.
وكان يعتبر أن دفع أجور التصوير دعمٌ للصمود قبل أن يكون إنتاجًا سينمائيًا.
جمع مادة مهمّة، لكنه كان يعرف أنها غير مكتملة.
لهذا لجأ إلى فعلٍ أبويّ يشبهه: فيلم قصير كتبته ابنته يافا البكري.
أرسله لي يومها.
لم يكن الفيلم محاولة لإحاطة الكارثة، بل اعترافًا نبيلًا بالعجز أمامها.
قال لي جملة ظلّت ترنّ في رأسي:
لا أستطيع الآن أن أُنجز فيلمًا عن غزة كما فعلت كوثر بن هنية.
أنا بحاجة أن أبتعد قليلًا عن المشهد، أن أراه من مسافة، أن ألمه بكل مكوّناته بعقلانية وموضوعية… لكنني سأعمل فيلمًا عن غزة.
لم يكن تردّدًا، بل احترامًا للكارثة.
كان يعرف أن بعض الأفلام لا تُصنع تحت القصف، بل بعد أن يهدأ الغبار قليلًا، كي لا تخون الصورة معناها.
تحدّثنا عن الإبادة: عن المجازر، المحارق، التجويع، التهجير القسري.
قلت له: في هذه الحرب آلاف الأفلام.
كل شرفة كاميرا.
كل هاتف شاهد.
كل لقطة مهزوزة، مرتجفة، ناقصة الإطار… لكنها حقيقية، وهنا تكمن قيمتها.
طرحت عليه فكرة منصة تجمع هذه اللقطات، تؤرشفها بأسمائها وتواريخها، تحفظ حق من صوّرها، وربما تُعرض يومًا في متحف عن الإبادة، أو تُباع لدعم أصحابها، أو تبقى فقط كي لا تُمحى.
أيّد الفكرة فورًا، بلا تردّد.
قال: أنا جاهز لكل ما يُطلب مني لصالح هذه المنصة.
ثم أضاف: سأذهب إلى عمّان لعرض فيلم للمخرجة دعيبس، وعند عودتي إلى رام الله نلتقي، ونجمع زملاء آخرين، ونبدأ.
كنا نؤجّل اللقاء، لا لأن الوقت متّسع، بل لأننا كنا نعتقد أن القلب سيتحمّل.
محمد البكري كان ضميرًا.
والضمير، حين يتعب، يتعب الجسد أولًا.
حمل عبء الفنان الوطني الملتزم، وعبء الأب والأسرة، وعبء الوعي حين يصبح مسؤولية لا استعراضًا، وعبء الزمن، وعبء القلب الذي يعرف حدوده ويصرّ على تجاوزها.
وفوق كل ذلك، عبء غزة؛ أن ترى كل هذا، ولا يكون بيدك إلا الصورة، والفكرة، والانتظار.
اليوم، امتلأت مواقع التواصل بنعي محمد البكري.
وهذا ليس تفصيلًا عاطفيًا.
هذا دليل.
دليل أنه لم يكن فنان نخبة، بل فنان الشعب.
الناس لا تنعى من لا يشبهها، ولا تبكي من لم يقل وجعها بصوتها.
رحل محمد،
كما يرحل الذين يشبهون الحياة:
هادئًا،
عميقًا،
ومثقلًا بما يكفي ليبقى.
ما يبقى ليس العضلة، بل الأثر.
وما لم يُنجز بعد—فيلم غزة، والمنصة، والشهادة المؤجَّلة—صار أمانة في أعناقنا.
يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
25 كانون الأول / ديسمبر 2025
******************
المصادر:
– موقع القدس العربي
– موقع الشرق الاوسط
– مجلة الحرف والكلمة
– الإتحاد العربي للثقافة
– موقع سبق
– موقع الجزيرة .نت
– موقع صحيفة عكاظ
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN
.bbc /arabic
– موقع (اليوم السابع)
– موقع موزاييك
– جريدة الدستور
– موقع العربي الجديد
– موقع : – الجزيرة .نت
– سكاي نيوز عربية – أبوظبي
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم
– العربية .نت – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
*****


