كتب الدكتور الفنان السعودي: عصام عسيري..يعرفنا على جيولوجيا الألوان..

جيولوجيا الألوان

د. عصام عسيري

في لوحتين مختلفتين، لا نقف أمام سطحٍ ملونٍ فحسب، بل أمام طبقات من الذاكرة، وطبقات من الإحساس، وطبقات من الزمن؛ حيث يتحول اللون من مادة إلى لغة، ومن أثر بصري إلى علامة سيميائية مشحونة بالدلالة.

اللون بوصفه علامة: قراءة سيميائية في جيولوجيا التجريد الحقلي الطبقي

أولاً: لوحة أحمد البار Artist Ahmad Albar ، اشتعال الذاكرة وقلق الأفق

(أكريليك بالسكين على كانفاس 80 × 80سم)

في لوحة أحمد البار، يبدو اللون هنا وكأنه اشتعل لتوّه وخرج من باطن الأرض. الأحمر، البرتقالي، الأصفر، والأسود، لا تتجاور بوصفها اختيارات جمالية، بل تتصارع كقوى نفسية. هنا، لا يحكي اللون عن الطبيعة، بل عن الإنسان حين تتحول داخليته إلى تضاريس.

سيميائياً، يمثل الأحمر في العمل علامة مزدوجة:
هو نار الحياة، لكنه في الوقت ذاته جرحها المفتوح.
أما البرتقالي، فيتحول إلى منطقة عبور؛ بين الاشتعال والانطفاء، بين الغضب والتأمل.
ويحضر الأسود لا كغياب للضوء، بل كذاكرة كثيفة الدخان، كتراكم صامت للألم والخبرة.

الطبقات المتراكمة في اللوحة تُقرأ بوصفها زمنًا متراكبًا؛ فكل طبقة لون هي لحظة شعورية، وكل كشط أو انكشاف هو اعتراف بصري بأن الحقيقة لا تظهر دفعة واحدة.
البار هنا لا يرسم مشهدًا، بل يبني أفقًا نفسيًا تتذبذب فيه العين بين السطح والعمق، بين ما يُرى وما يُستشعر.

لوحة تُشبه المدن حين تُرى من الذاكرة لا من الواقع؛ متوهجة وراسخة في آن واحد.

ثانياً: لوحة خالد عُريج Khalid Oraij ، صمت الضوء وبلاغة الاتساع

(أكريليك بالسكين على كانفاس 64 × 100سم)

هي على النقيض الظاهري، لكنها في العمق تكملة للمعنى.
يسيطر الأصفر بوصفه لونًا مركزيًا، لا بوصفه بهجة، بل كحقل دلالي مفتوح على التأمل. الأصفر هنا ليس شمسًا، بل أثر الشمس؛ بقايا ضوءٍ استقر في الذاكرة.

في السيميائية، يُقرأ الأصفر كلون للمعرفة، ولليقظة، لكنه أيضًا لون الهشاشة.
وعندما تتخلله بقع الأحمر والأسود، يتحول إلى سؤال وجودي:
كيف يبقى الضوء حين تُثقل عليه التجربة؟

الملمس السميك، والطبقات العريضة التي تغطي بعضها، يمنحان اللوحة طابعًا جسديًا؛ كأن اللون لم يُدهَن، بل وُضع ببطء، كمن يرمم جدارًا داخليًا. لا عنف هنا، بل صبر. ولا صراع، بل تأمل طويل.

الفراغات الواسعة ليست فراغات بصرية، بل مساحات صمت في داخله طاقة، حيث يُترك للمتلقي أن يُكمل المعنى بنفسه. إننا أمام لوحة لا ترفع صوتها، لكنها تظل عالقة في الوجدان.

بين اللوحتين: جدلية النار والضوء
إذا كانت لوحة البار تمثل اللون بوصفه انفعالًا واحتدامًا عاطفيًا، فإن لوحة خالد عريج تقدم اللون بوصفه تأملًا وامتدادًا شعوريًا.
الأولى تصرخ بشرر، والأخرى تهمس بعذوبة.

معنويًا، نحن أمام ثنائية واضحة:
ذاكرة جريحة، زمن متكسر، توتر داخلي، وضوء متأمل، زمن ممتد، هدوء فلسفي. لكن يجمعهما الإيمان بأن التجريد ليس هروبًا من المعنى، بل ذروة المعنى؛ حيث يصبح اللون هو النص، والطبقة هي الجملة، والملمس هو النبرة.

أخر المقالات

منكم وإليكم