(( مراد الداغستاني ))
قناص اللحظة وفيلسوف الصورة …
يُعدّ الفنان مراد عبدالله سلطان خلساي الداغستاني (1917-1984 . الموصل ) ظاهرة فنية متفردة ورائداً من رواد التصوير الفوتوغرافي الحديث في العراق والعالم . لُقِّب بـ القناص ليس لمهارته في التقاط الصور فحسب . بل لقدرته الفائقة على اقتناص اللحظة بتوقيتها المثالي وتجميد الحركة في ذروة تجليها . محولا المشهد المألوف إلى دراما بصرية عميقة ومؤثرة .
تتجذر أعمال الداغستاني في الواقعية . حيث اعتمدت الموصل بيئته والإنسان فيها موضوعه الأساسي . مركزا على تفاصيل الحياة اليومية وهوية المدينة . إلا أن عبقريته تكمن في أنه لم يكتف بالتوثيق المباشر . بل تجاوز الواقعية ليتبنى التجريب والبحث المستمر في التقنيات
وظف الداغستاني غرفة الطبع ( الداركروم ) ببراعة غير تقليدية . محوّلا إياها إلى ما يشبه برنامج الفوتوشوب لزمنه . لقد سمح له هذا بإنتاج صور ذات طابع تجريدي أو أقرب إلى فن الغرافيك ( Graphic Art ) في بعض الصور . متحررا من قيود النسخة الأصلية للفيلم .
عززت ثقافته الفنية الواسعة وعلاقاته الوطيدة بالوسط التشكيلي الموصلي . إلى جانب إتقانه للغة الإنجليزية ومتابعته لأحدث الإصدارات العالمية في التصوير .
جعلت منه رجل الحداثة والتجديد في زمن هيمنت فيه الكلاسيكية .
اتخذ الداغستاني خيارا فنيا مدروسا باعتماده على الأبيض والأسود على الرغم من توفر الأفلام الملونة . لم يكن هذا مجرد تقييد ذاتي . بل كان خياره الفني الأمثل لعدة أهداف ومن بينها .
يعمل اللونان على تجريد المشهد من التفاصيل اللونية المشتتة . مما يرسخ التركيز على جوهر التكوين .
الضوء والظل .
استخدم التباين العالي (الكونتراست) لخلق دراما بصرية قوية . حيث تُصبح الظلال جزءا أساسيا من التكوين . تضفي عليه الغموض والعمق . وتساعد في عزل الشكل عن الخلفية بطريقة فنية محسوبة .
يبرز الأبيض والأسود التفاصيل المادية بدقة مذهلة . مثل . تجاعيد وجوه الشيوخ . تضاريس قطعة قماش . أو خشونة جدران البيوت الطينية . وهذا يعزز من واقعية المشهد ويجعله ملموسا ومحسوسا .
الموصل مختبره الأكبر
كانت مدينة الموصل بمثابة مختبره الإبداعي ومصدر إلهامه . حيث ركز على موضوعات تعكس هوية المدينة وتفاصيل الحياة فيها . لكنه فعل ذلك بفلسفة الاقتناص . باحثا عن الحركة والطاقة والتوتر بين الإنسان وبيئته . وليس التوثيق الثابت والمباشر .
احتفى الداغستاني بـ كرامة العمل والجهد البدني . صوّر الإنسان العادي ( الصيادين ، الفلاحين ، البدو ، عمال الحرف اليدوية ) وهو إما متناغم أو متصارع مع أدواته . محولا العمل اليومي إلى أيقونة إنسانية .
لم يكن نهر دجلة مجرد خلفية . بل شريك في الحدث . صور القوارب والصيادين على ضفافه تظهر تفاعلا حيويا بين الإنسان ومصدر رزقه . مع استغلال جميل لانعكاسات الماء لخلق تناظر بصري .
التقط الداغستاني صورا شخصية (بورتريه) تتسم بـ الصدق والعمق النفسي . كانت عدسته تقتنص الحالة النفسية للشخص عبر نظرة العين أو انحناءة الرأس . مظهرة تفاصيل دقيقة وناقلة جوهر الشكل وروح الانسان . متجاوزة مجرد تسجيل ملامح الوجه .
تُمثل أعمال الداغستاني أرشيفا بصريا فريدا ليس لتاريخ الموصل والعراق فحسب . بل لـ تاريخ الضوء والحركة في الفن الفوتوغرافي العالمي . لم تُصنع صوره لتبقى كوثائق . بل كلوحات فنية خالدة تعكس عبقرية المصور في اصطياد الجمال المخفي وسط الرتابة اليومية .
( الصياد ) ، ( موسيقى الزمن ) ، ( جمجمة ونقود ) ، ( الحياة والموت ) ،
( أرجل الخيول ) ، ( حب وعجز ) ، ( الطائر الوحيد ).
لقد أرسى مراد الداغستاني دعائم أسلوب فوتوغرافي جديد يقوم على تجسيد التعبير الذاتي والعميق للإنسان من خلال تجريد اللحظة والاختزال في التكوين ، مما يجعله أحد أهم الفنانين الذين استطاعوا تحويل الكاميرا إلى أداة فلسفية للتعبير عن الوجود الإنساني .
@متابعين@إشارة


