ظلت “صورة إليزابيث ليدَرَر” للفنان غوستاف كليمت مخفية لعقود بعيدًا عن أعين الجمهور، لكنها بيعت الآن في مزاد مقابل مبلغ قياسي. فما الذي يجعلها بهذه القيمة الهائلة؟هذه اللوحة الغامضة والقليلة الشهرة نسبيًا أصبحت أغلى عمل فني حديث يُباع في مزاد على الإطلاق، وأغلى ما باعته دار سوذبيز طوال تاريخها. اللوحة، وهي بورتريه كامل الطول لإليزابيث ليدَرَر، ابنة أهم رعاة كليمت، حققت 236.4 مليون دولار في نيويورك في 18 نوفمبر، متجاوزة بكثير سعر لوحة كليمت ”سيدة مع مروحة“ التي بيعت عام 2023 مقابل 108 ملايين دولار، وكانت حينها الأغلى في أوروبا.بهذا البيع، تجاوزت اللوحة لوحة آندي وارهول ”مارلين مونرو ذات اللون الأزرق المريمي“ التي بيعت عام 2022 مقابل 195 مليون دولار، لتصبح ثاني أغلى عمل فني يُباع في مزاد بعد لوحة ليوناردو دا فينشي ”المخلّص“ التي بيعت عام 2017 مقابل 450 مليون دولار. ولكن ما الذي يجعل هذا البورتريه، الذي يبلغ طوله نحو مترين ويصوّر وريثة في العشرين من عمرها، بهذه القيمة الخيالية؟رغم أنّ اللوحة، المنجزة بين 1914 و1916، قد تبدو أقل بهرجة مقارنة بأعمال كليمت من “الفترة الذهبية” مثل ”صورة أديل بلوخ-باور“ أو ”القبلة“، إلا أنها تمتلك توترًا نفسيًا عميقًا وجمالًا خفيًا. فهي ليست أقل ثراءً من الناحية الجمالية، بل أكثر غموضًا.بعد أن صادرتها السلطات النازية عام 1938 من عائلة ليدَرَر اليهودية الثرية، ظهرت اللوحة مجددًا في السوق في أوائل الثمانينيات، ثم دخلت ضمن مقتنيات الملياردير ليونارد لاودر الذي توفي عام 2025. ولطالما بقيت مخفية عن الجمهور، وكأنها تنتظر لحظة عودتها إلى الأضواء. واليوم، تبدو مستعدة لكشف أسرارها.—«تفاصيل ثقافية معقدة»أُنجز البورتريه في السنوات الأولى من الحرب العالمية الأولى، ويمكن اعتبار الاحتفاء البصري بإليزابيث تجسيدًا أخيرًا لبريق العصر الذهبي لفيينا. العين المجردة ترى زخارف آسيوية الطابع تحيط بالفتاة في فضاء أزرق سماوي، إلى جانب نظرتها الساكنة، التي تنقل المشاهد بعيدًا عن اضطراب أوروبا في ذلك الزمن. الذهب الذي اشتهر به كليمت لم يختفِ، بل تحوّل إلى جرأة لونية أقرب إلى التعبيرية.وعند التمعن، تصبح التفاصيل أكثر ثراءً وتعقيدًا. فقد نسج كليمت في ثوب إليزابيث شبكة من الرموز المستوحاة من الفن الآسيوي ومن الصور المجهرية الطبية التي بدأ العلم يكشف عنها في ذلك الوقت. فالتنانين على ثوبها تشبه تلك الموجودة في المنسوجات الصينية من عهد سلالة تشينغ، حيث ترمز للقوة الكونية. حركتها الدائرية حول جسدها تمنحها حضورًا أسطوريًا، كما لو أنها تتحكم بالعناصر.وبموازاة هذه الرموز الشرقية، تظهر أشكال دقيقة تُذكّر بالصور البيولوجية المجهرية التي شغلت كليمت بعد حضوره محاضرات في علم الخلية وعلم التشريح عام 1903. بعض الزخارف التي تبدو نباتية هي في الحقيقة أشكال خلوية صغيرة، سبق أن ظهرت في أعمال أخرى له، واستُخدمت للإشارة إلى أصول الحياة والدم.من خلال المزج بين رموز السلطة الإمبراطورية وإشارات الأصول البيولوجية والدم، يصنع كليمت لوحة تعمل على مستويات عميقة تجمع بين الأسطورة القديمة والعلوم الحديثة.—قصة داخل وخارج الإطاربعد موت كليمت بسنوات طويلة، وتحديدًا في أواخر الثلاثينيات، واجهت إليزابيث خطر الاضطهاد بسبب أصلها اليهودي. في خطوة جريئة لإنقاذ نفسها، ادعت كذبًا أنّ كليمت هو والدها البيولوجي. ووافقت والدتها سيرينا على دعم هذه الرواية بشهادة رسمية. الغريب أن السلطات صدقت القصة ومنحت إليزابيث وضعًا قانونيًا يحميها.قصة إليزابيث، داخل اللوحة وخارجها، تحكي عن التحول والبقاء والولادة الجديدة. فعند النظر من بعيد، يبدو جسدها الممدود وكأنه يشبه فراشة على وشك الخروج من الشرنقة، وهو رمز متكرر لدى كليمت. ثوبها الملوّن الذي ينساب خلفها يبدو مثل جناحين لامعين يستعدان للانفتاح.
وسواء استحق العمل السعر الخرافي الذي حققه أم لا، فلا شك في قوة هذا البورتريه وفرادته، وفي عبقرية كليمت التي تتجدد باستمرار.
المصدر BBC News


