دهاء إنووا … المرأة الأوغاريتية التي تعيد تعريف العلاقة بين الرجل والمرأة بعقد مؤاخاة..كتب على ألواح الطين.

عقد مؤاخاة من أوغاريت… حين اختارت امرأة أن تُعيد كتابة القوانين على ألواح الطين..
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””

في مدينة أوغاريت تلك التي كانت تفتح نوافذها على البحر وتكتب قوانينها على ألواح الطين وُجد لوح صغير قديم متواضع في حجمه عظيم في دلالته يحمل بين سطوره قصة امرأة قرّرت أن تفعل ما لم تتجرأ كثيراتٌ على فعله. امرأة اسمها إنووا كانت غنية واثقة تعرف تماماً ما تريد وتعرف أكثر ما لا تريد.
في زمنٍ كان الرجل فيه ربّ البيت وصاحب القرار ومالك الحقّ في تزويج المرأة وأخذ مهرها لم تكن الكثير من النساء يرغبن في هذا النمط من الحياة. لكن معظمهن لم يكن أمامهن خيار. أمّا إنووا فقد كانت من نساء أوغاريت اللواتي منحهن المجتمع والقانون شيئاً من المرونة… شيئاً يكفي لامرأة ذكية أن تُعيد تشكيل مصيرها.
وهكذا كان.
دهاء أوغاريتي… لإمرأة تعيد تعريف العلاقة
واللوح الطيني الذي كُتب بالآكادية يخبرنا أنّ إنووا لم تتزوّج الرجل الذي اختارت العيش معه… بل تبنّته كأخ لها.
هل كان هذا جنوناً؟… أم شجاعة؟.. أم دهاءً قانونياً ناعماً كنسيم البحر على شاطئ ميناء رأس شمرا؟
الحقيقة أنّ إنووا كانت تعرف ما تفعل. فالعلاقة الزوجية التقليدية آنذاك لم تكن متكافئة. الزوج يملك حق السيطرة والتوجيه وإدارة ممتلكات البيت. أمّا عقد المؤاخاة بين متبنٍّ ومتَبَنّاة فكان يفتح باباً إلى شيء جديد كلياً: المساواة التامة.
إنووا تُلقّن الكاتب شروط العقد:
لا أكبر ولا أصغر… لا سيّد ولا تابع… لا زوج ولا زوجة.
بل طرفان متكافئان يشتركان في الحياة والبيت والممتلكات ويحق لكل منهما فسخ العلاقة وفق بنود واضحة.
يا دو–أدو يدخل بيت إنووا… محمّلاً بالعطايا
يخبرنا اللوح أنّ الرجل المتبنّى يادو-أدو لم يدخل بيت إنووا خفيف اليد. لقد جاء بثروة معتبرة وعطايا كثيرة

1000 ثاقل من الفضة

3 تالنت من البرونز

4 إماء و6 عبيد

100 غنمة

9 ثيران وحماران

20 كرسياً وسريران وطاولات

كأنّه يدخل عقد شراكة لا علاقة تبعية. كل ما جلبه دخل بيت إنووا ودخل العقد معها ملكية مشتركة كاملة.
فسخ العقد… ميزانٌ يميل لصالح المرأة
أجمل ما في هذا اللوح ليس الثروة ولا البنود بل العدالة الغريبة التي سبقت زمانها.
إذا رغبت إنووا في طرد أخيها المتبنّى فعليها أن تدفع له غرامة مالية كبيرة من ممتلكاتها: عقارات إماء ثيران أثاث… ما تم الاتفاق عليه مسبقاً.
أمّا إذا أراد يادو–أدو فسخ العلاقة؟
فكل ما عليه أن يفعل هو أن يقول لها:
“لن أعيش معك بعد الآن.”
ثم يرحل… بلا غرامات… بلا أخذٍ للممتلكات… بلا شروط.
إنووا تبقى في البيت.
وهو يخرج.
وكأن القانون يقول لها: لقد اخترتِ الطريق الأصعب في البداية فسنمنحك الأمان عند النهاية.
علاقة بلا ذكورة ولا أنوثة… فقط مساواة
اللوح يصرّح بوضوح:
“لا يوجد أكبر ولا أصغر بينهما.”
كلمة “أخ” هنا لم تكن رابطة دم بل رابطة قانونية تُسقط تماماً مفهوم السيطرة الذكورية التقليدية. لا يستطيع الأخ المتبنّى تزويج أخته ولا أخذ مهرها ولا التحكم بممتلكاتها.
إنها علاقة اختارتها امرأة تسعى إلى شريك لا سيّد… إلى معادل لا متسلّط… إلى حياة تحكمها الإرادة لا الأعراف.
شهود كاتب وختم… وبداية قصة قديمة جديدة
يسجل اللوح أسماء الشهود:

يانهامو بن شو

كوانو بن دي
ويختمه الكاتب كووانا–ياشمو بختمٍ يدلّ على جدّية المضمون وكأنهم جميعاً يشهدون على حدث نادر… حدث يقول إن امرأة من أربعة آلاف عام كانت قادرة على صياغة حياتها وفق شروطها.
في أوغاريت… حيث فعلت امرأة ما زلنا نخشاه اليوم
هذا العقد ليس مجرد وثيقة قانونية. إنه نافذة على مجتمع عرف أن المرأة يمكن أن تكون صاحبة قرار وأن العلاقات يمكن أن تُبنى على المساواة حتى لو لم تكن زوجية.
إنه محاولة مبكّرة وربما فريدة لامرأة أوغاريتية لتقول:
“لا أريد زوجاً يحكمني… بل أخاً يرافقني.”
محاولة أن تعيش في عالمٍ لم يكن مستعداً تماماً لفكرة التكافؤ، لكنها وجدت ثغرة في القانون… وثغرة في المجتمع… ودخلت منهما بثبات امرأة تعرف قيمتها.
وها هو لوحها اليوم— يحمل الرقم RS 23.210—يركن في إحدى قاعات المتحف الوطني بدمشق يشهد مضمونه على ذكاء هذه المرأة وشجاعتها وعلى حضارةٍ كانت تُجيد الإصغاء للنساء أكثر مما نعتقد بكثير..

سرد تاريخي
“””””””””””””””””

عاشق اوغاريت.. غسان القيم..

الصورة المرفقة نمطية

أخر المقالات

منكم وإليكم