“قلب الظلام”.. رائعة جوزيف كونراد (1)
يحيى غانم
*غلاف رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد (الجزيرة)
• سيرة ذاتية لبريطاني في الكونغو في القرن الـ19، عاشها مصري في القرن الـ21
في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، تميزت فترة الصبا والشباب الباكر عندي، مثلي مثل غالبية أقراني في ذلك الزمان، بالثراء الشديد في القراءة، التي كانت بوابتنا إلى الخارج، سواء كان محليا أو عالميا.
كانت بعض الكتب بالنسبة لنا بمثابة طائرة نفاثة تنقلنا إلى أصقاع بعيدة، في حين كانت كتب أخرى بمثابة آلة زمن تعود بنا تارة إلى عصور مضت منذ مئات وآلاف السنين، وتارة أخرى تحملنا إلى عوالم غرائبية مستقبلية، تحقق كثير منها فيما بعد.
كثيرة هي الكتب التي قرأتها، والتي تراوحت بين روايات، وتراجم وسير، ومذكرات أعلام، وشعر، ومصنفات في التاريخ والجغرافيا السياسية.
ومن بين تلك الكتب التي استمتعت بقراءتها بقدر ما انقبض لها صدري، رواية “قلب الظلام” للكاتب البريطاني ذي الأصل البولندي جوزيف كونراد. وكانت الرواية في الحقيقة سيرة ذاتية سجل فيها الجزء الأهم الذي صاغ شخصيته لاحقا كروائي، وإن وضعها الكاتب في شكل رواية.
ولكن، كيف تجتمع المتعة مع انقباض الصدر؟ الواقع أن رواية “قلب الظلام” من الأعمال القليلة التي يمكن أن تولد هذا الشعور الفريد الذي يجمع الأضداد، أو ما يبدو كذلك.
أما انقباض الصدر، فمنشؤه القضايا التي يطرحها كونراد في هذا العمل، والتي تبدو على سطحها قضية الاحتلال الاستيطاني الأوروبي لأفريقيا، الذي اعتمد التطبيق الفج لفلسفة الألماني نيتشه الأكثر فجاجة، والتي تتلخص في أن البقاء للأقوى. وبروز هذه القضية يأتي من أنها تغوص بالقارئ في قضايا أكثر عمقا، تتعلق بغرائز الإنسان البدائية.
وأما متعة قراءة العمل، فتتولد من قدرة المؤلف على ابتكار نمط غير مسبوق في الحكي، يعتمد على القفز بين الرواة داخل العمل، ناهيك عن القفز المفاجئ بين الأمكنة والأزمنة، وهو ما جعل كونراد رائدا لهذا المنهج الروائي، الذي اعتمده من بعده أعلام الكتابة أمثال فرجينيا وولف ولورنس داريل. فالسرد عند كونراد لا يتبع التسلسل الزمني للأحداث، وإنما يتتبع أحاسيس المؤلف.
وبالرغم من أن الرواية، التي طبعت أول مرة عام 1902، قصيرة، فإنها في عام 1998 جاءت في المركز الـ67 ضمن أفضل 100 عمل أدبي كتب بالإنجليزية.
في سيرته الذاتية يتذكر كيف كان، وهو ابن 9 سنوات، يضع إصبعه على منطقة البحيرات العظمى في قلب خريطة أفريقيا قائلا: عندما أكبر سأذهب إلى هناك
ثلاث حيوات لإنسان واحد!
تحول من طفل في المنفى إلى قبطان بحري، وأخيرا روائي عالمي. فالواقع أن جوزيف كونراد عاش ثلاث حيوات لا حياة واحدة، الأولى والثانية أوصلتاه إلى الثالثة التي تمثلت في روائي شديد التميز والاختلاف. وكونراد في ذلك لا يختلف عن العديد من البشر ممن عاشوا أو يعيشون حيوات مختلفة عبر سنوات عمرهم.
فقد ولد كونراد عام 1857 في بلدة بيرديكزوف في غربي أوكرانيا، التي كان غالبية سكانها من أصول بولندية ويتحدثون لغتها، وذلك في الوقت الذي مارست فيه روسيا نفوذا سياسيا شبه مطلق على تلك المنطقة. وكانت أسرة كونراد تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية، وكان والده أبولو مورزنيوفسكي منخرطا في حركة معارضة سياسية ضد النفوذ الروسي، الذي كان يتحول من وقت إلى آخر لحكم مباشر.
وفي عام 1861 انتقل الرجل، الذي كان شاعرا وكاتبا مسرحيا، مع زوجته وابنه من غربي أوكرانيا إلى العاصمة البولندية وارسو، لينخرط عام 1863 في حركة عصيان مسلح انتهت باعتقاله ونفيه وعائلته الصغيرة إلى شمالي شرقي روسيا، حيث ماتت زوجته بعد شهور، ثم لحق الأب بها، تاركا الطفل جوزيف، وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ليتربى في كنف عمه الثري.
ورث كونراد عن والده رومانسيته وحب الترحال والمغامرات والقراءة. ففي سيرته الذاتية يتذكر كيف كان، وهو ابن 9 سنوات، يضع إصبعه على منطقة البحيرات العظمى في قلب خريطة أفريقيا قائلا: “عندما أكبر سأذهب إلى هناك”. وبعد أن أصبح الطفل صبيا قرر أنه سيكون بحارا مغامرا، وقد تحقق له ما أراد في حياته الثانية.
من بين الأشياء المثيرة حول جوزيف كونراد، وهي كثيرة، أنه بدأ تعلم اللغة الإنجليزية بعد أن تجاوز سن العشرين. ويقول معاصروه إنه كان يتكلمها بلكنة ثقيلة، فيما ظلت لغته الأم البولندية، والثانية الفرنسية
ثلاث لغات
كانت البولندية لغته الأولى، والفرنسية الثانية، وكتاباته بالثالثة من بين أفضل ما كتب بالإنجليزية.
فعندما بلغ جوزيف السادسة عشرة من عمره، ذهب إلى فرنسا ليبدأ حياته بحارا على سفينة تجارية، إلا أن عمله في تلك المرحلة من حياته لم يحمله إلى أفريقيا، وإنما إلى الشرق الأقصى. ثم انتقل إلى لندن ليصبح أول قبطان بحري بولندي في الأسطول التجاري البريطاني، وليقدم على شيئين غيرا مجرى حياته الثانية.
كان أول ما أقدم عليه هو تغيير اسمه إلى جوزيف كونراد، إذ كان يضيق بسخرية أقرانه الإنجليز من اسمه البولندي. ومن بين الأشياء المثيرة حول جوزيف كونراد، وهي كثيرة، أنه بدأ تعلم اللغة الإنجليزية بعد أن تجاوز سن العشرين. ويقول معاصروه إنه كان يتكلمها بلكنة ثقيلة، فيما ظلت لغته الأم البولندية، والثانية الفرنسية.
ورغم أنه صرح مرارا بأنه كان يتمنى أن يكتب أدبه باللغة الفرنسية، التي يجيدها أكثر من الإنجليزية، فإنه كتب جميع أعماله بالأخيرة، التي صارت جزءا لا يتجزأ من الأدب الإنجليزي. وهو الأمر الذي أقر كونراد بأنه لم يكن سهلا، إذ لم يتجاوز إنتاجه في أي وقت صفحة واحدة في اليوم.
في حياته الثانية، استحضر كونراد ذكريات الطفولة والصبا، حين كان يشارك والده رومانسيته وغرامه بالحل والترحال والمغامرات في قارة أفريقيا. وقد ساعد على ذلك أن القارة السمراء باتت في سبعينيات القرن الـ19 مقصدا للأوروبيين الذين تلفحوا هم ودولهم بجلباب “نشر المسيحية” و”الارتقاء” بشعوب أفريقيا، إلا أنه تحت هذا الجلباب كانت تكمن مخالب وأنياب لا تستهدف سوى نهب ثروات القارة.
واصل ستانلي توغله في غابات أفريقيا متتبعا مجرى نهر الكونغو حتى وصل إلى مصبه، وهو ما كان مؤذنا لأوروبا باكتشاف الموارد الطبيعية الهائلة في المنطقة
ثلاث مهام مختلفة والهدف واحد
• كيف جمعت “الصدفة” كونراد وأشهر مستكشفي أفريقيا، ستانلي وليفينغستون، في الكونغو؟
وصلت حياة كونراد الثانية إلى ذروتها بمهمة في أعالي نهر الكونغو لإجلاء مدير محطة شركة العاج البلجيكية. وتزامنت تلك المهمة مع مهمة أخرى كلف بها الكاتب والرحالة هنري مورتون ستانلي بصفته ضابط استطلاع لوزارة المستعمرات البريطانية لوسط أفريقيا.
وقد قام ستانلي بمهمته تلك تحت غطاء البحث عن أمين باشا، حاكم المديرية الاستوائية في عهد الحكم التركي-المصري للسودان (1821-1885)، الذي بات معزولا في أحراش الجنوب السوداني عقب قيام الثورة المهدية (1881-1898). وهنا تجب الملاحظة أن هناك حدودا مشتركة بين جنوبي السودان والكونغو.
الصدفة وحدها هي التي جمعت بين كونراد وستانلي في مهمتين متشابهتين، وتقريبا في المنطقة نفسها من وسط القارة. وخلال مهمته، وبدلا من العثور على أمين باشا المكلف بإجلائه، عثر ستانلي على ديفيد ليفينغستون، أحد شذاذ الآفاق البريطانيين، بعد أن فُقد في رحلة استكشافية في أدغال أفريقيا لفترة طويلة.
ثم واصل ستانلي توغله في غابات أفريقيا متتبعا مجرى نهر الكونغو حتى وصل إلى مصبه، وهو ما كان مؤذنا لأوروبا باكتشاف الموارد الطبيعية الهائلة في المنطقة. ومن ثم بادرت بلجيكا بتأسيس مشروعها الاحتلالي الاستيطاني في الكونغو، وهو المشروع الذي بلغ الحضيض في وحشيته بحق أفارقة تلك الدولة، كما بلغ ملكها ليوبولد الثاني مبلغا غير مسبوق من الانحطاط الأخلاقي.
فيما بعد، استأجرت بلجيكا خدمات ستانلي لإدخال البلجيك إلى المنطقة، لتأسيس مستوطنات ومحطات تجارية وقلاع عسكرية.
وهنا نتوقف أمام هذه المصادفة التي ساقت كلا من ستانلي وكونراد إلى البقعة نفسها وللهدف ذاته. فالأول كان في مهمة بدت في ظاهرها مخصصة للعثور على أمين باشا، وبدلا من ذلك عثر على المجرم ليفينغستون، في حين كان كونراد في مهمة لإجلاء مدير فرع الشركة في المنطقة نفسها. تلك المهمة التي سجلها كونراد في قالب روائي في روايته “قلب الظلام”، حيث قام مارلو، الشخصية الرئيسية، بدوره فيها.
ومن هنا بدأت قصة كونراد، التي استأنفتها شخصيا بعد ذلك التاريخ بأكثر من قرن من الزمان.
*الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
******************
المصادر:
– موقع الجزيرة .نت
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN
.bbc /arabic
– موقع (اليوم السابع)
– موقع موزاييك
– جريدة الدستور
– موقع العربي الجديد
– موقع : – الجزيرة .نت
– سكاي نيوز عربية – أبوظبي
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم
– العربية .نت – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
*****


