كارلو روفيللي: ثمة علاقة قوية جدًّا بين الفيزيائيين والفلاسفة
زاك سافيتسكي
اعتدنا على أن تكون السرعة نسبية: سرعة هذه الطاولة تختلف بالنسبة لي، وبالنسبة لتلك الحمامة التي تحلّقُ في الخارج، أو بالنسبة للشمس. أظهر لنا آينشتاين أنّ الزمان والطول نسبيان أيضًا بالنسبة للمراقبين المختلفين. ويأخذ ميكانيك الكم العلاقاتي هذه الفكرة خطوة إلى الأمام؛ فهو يُجادل بأنّ جميع خصائص أي جسم – لونه، وموقعه، وحجمه، وما إلى ذلك- لا يمكن تعريفُها من حيث المبدأ إلا بالنسبة لنظام آخر. علينا التخلّي عن فكرة وجود أشياء مادية نصفها من الخارج. إنّ أفضل طريقة لتصوّر الواقع في ضوء العلم الحديث هي من حيث المعلومات النسبية التي تمتلكها أجزاء الطبيعة عن بعضها. لا يمكننا إلّا أن نقول كيف يبدو العالم من منظورنا المحدود والمنحاز. هذا أمر جذري وجوهري للغاية لأنّه لم يَعُدْ بإمكانك القولُ: “هذه قائمة بالأشياء الموجودة في العالم، وهذه هي طبيعتها”. علينا أن نتعايش مع هذا النقص في الوصف الكامل للواقع.
(*) هناك شيءٌ مقلقٌ في هذه الحجّة. يبدو أنها تقوض الهدف الأسمى للفيزياء والمتمثّل في وصف الطبيعة “الحقيقية” للواقع. أليس كذلك؟
– بالتأكيد؛ ولكن إذا نظرنا إلى تاريخ العلم سنجد أنّ الهدف الأسمى يتغيّرُ باستمرار؛ فقد انتقل هذا التاريخ من وصف دوران الأجرام السماوية إلى تتبع القوى التي توجّهُ الجسيمات إلى متابعة تطوّر المجالات في نسيج الزمكان Space-time. أعتقد أنّ مشكلة العلم تكمن في إيجاد المخطط المفاهيمي الصحيح لفهم الطبيعة على أفضل وجه كما نراها. ينبع المنظور العلائقي من إدراك عميق بأنّ معرفتنا بالعالم محدودةٌ جوهريًا، وأنّ كل ما نراه جزئيٌّ. لدينا طريقةٌ أقوى وأكثر صدقًا للتعامل مع الواقع من دون التمسك بفكرة وجود حقيقة مطلقة. يتوجّبُ علينا ألّا نخلط بين المعرفة التي نمتلكها وواقع العالم. إذا تركك هذا بشعورٍ بالفراغ والتيه تجاه الواقع فهو أمرٌ طبيعي. ولكن بإدراكنا أنّ معرفتنا محدودة نتمكّنُ من التعلّم. بين اليقين المطلق والجهل يوجد كلُّ هذا الفضاء المثير للاهتمام الذي نعيش فيه.
(*) كتبتَ عن كيفية تأثّر تغيير نظرتك للعالم بالفلاسفة. كيف تنظر إلى العلاقة بين الفلسفة والفيزياء؟
– يحتاج كلٌّ من هذين التخصّصَيْن إلى الآخر بشدة. الفيلسوف الذي لا يفكّرُ في العلم لا يرغب في التعامل مع المعرفة التي لدينا، وهذا أمرٌ غير منطقي. والعالِمُ الذي يرفض الفلسفة مُحاصرٌ في طرق تفكيرٍ قد يكون هناك مخرجٌ منها. تاريخيًا، كانت العلاقة بين الفيزيائيين والفلاسفة قويةً جدًا، وقد تأثرت جميع الثورات العلمية بشدّة بالأفكار الفلسفية. كان كلٌّ من كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن فلاسفةً بحد ذاتهم، وقد نسّب آينشتاين صراحةً أفكارَهُ إلى فلاسفة مثل إيمانويل كانت وإرنست ماخ وغيرهما. من المحتمل أن يكون إرفن شرودنغر Erwin Schrödinger قد تأثّر بقراءته للأوبانيشاد، النصوص الهندوسية المقدسة، عندما صاغ المعادلات الرياضياتية لميكانيك الكم الموجي.
لكن حصل في الآونة الأخيرة أن تدهورت العلاقة بين الفيزيائيين والفلاسفة إلى أدنى مستوياتها؛ فقد صرّح ستيفن هوكينغ علنًا بأنّ “الفلسفة ماتت”، وقال ريتشارد فاينمان عبارات مثل “الفلاسفة لا يفيدون العلم بأكثر مما يفيدُ علماء الطيور الطيور”. ما لا يدركونه هو أنّهم، أولًا، يمارسون الفلسفة عندما يعلّقون على معنى ممارسة العلم. هذا أولًا، وثانيًا أنّ نظرتهم الكاملة للعلم متأثرة بالفعل بالفكر البراغماتي الأميركي وفلاسفة مثل كارل بوبر وتوماس كون. ما استخلصه مجتمعُ الفيزياء من هؤلاء الفلاسفة هو أنّ العلم يدور حول ابتكار أفكار جديدة من العدم، وتطوير نظرية، واختبار صحّتها من عدمها. هذا يعطي انطباعًا خاطئًا بأنّ التقدم العلمي يأتي فقط من خلال رؤى ثورية تُغيّرُ المفاهيم السابقة، وأنّ جميع الفرضيات الجديدة متساوية في الاحتمالية حتى يتم دحضها. لكنّ العلم أوسع بكثير من ذلك. إنه عملية مستمرة للبناء على المعرفة السابقة لتنقيح منظورنا.
في رأيي، هذا الانغلاق الفكري هو بالتحديد المشكلة التي تواجه الفيزياء النظرية الحديثة. نحن نشهد قفزة هائلة في المعرفة ترغِمُنا على إعادة التفكير في مفاهيم الواقع والمعلومات والزمان والمكان. أضاع مجتمعُنا الكثير من الوقت في البحث عن أفكار تخمينية، وما نحتاجه بدلًا من ذلك هو استيعابُ المعرفة التي نمتلكها بالفعل، ولتحقيق ذلك نحتاج إلى الفلسفة. الفلاسفة يساعدوننا لا في نطاق إيجاد الإجابات الصحيحة للأسئلة المطروحة بل في إيجاد الأسئلة الصحيحة التي تقود لفهم الواقع بشكل أفضل.
(*) في كتابك “هيلغولاند Helgoland”، تتحدّثُ عن كيفية تأثير الفيلسوف البوذي ناغارجونا Nagarjuna على عملك. بأيّة طريقة أثرت نصوصُهُ على فكرك؟
– الفكرة الأساسية لميكانيك الكم العلائقي هي أنّنا عندما نتحدّثُ عن جسم ما – سواء كان ذرة أو شخصًا أو مجرة- فإنّنا لا نشير أبدًا إلى النظام وحده؛ بل نشير دائمًا إلى التفاعلات بين هذا النظام وشيء آخر. لا يمكنُنا وصفُ أيّ شيء – وفي الواقع فهمُهُ- إلّا من خلال علاقته بنا، أو بأجهزة القياس الخاصة بنا.
عبّر ناغارجونا عن فكرة مشابهة جدًا: لا يوجد كيان له وجود مستقل بذاته؛ فالأشياء لا توجد إلا بالاعتماد على بعضها. من خلال التخلّي عن الكيانات “الأساسية” أو أي “حقيقة مطلقة نهائية”، يمكننا فهمُ العالم بشكل أفضل من حيث كيفية تجلّي الأشياء لبعضها ولنا.
يستخدم ميكانيك الكم العلائقي أفكارًا مماثلة لفهْمِ جميع مفارقات الكم بطريقة رياضياتية دقيقة. الفكرة الرئيسية هي التخلّي عن التساؤلات حول حقيقة الأشياء في المطلق تمامًا كما علّمَنا غاليليو أنّ السؤال “هل هذا الجسم يتحرك حقًا؟” لا معنى له، وعلّمَنا آينشتاين أنّ السؤال “هل هذان الحدثان متزامنان حقًا؟” لا معنى له. أعتقد أنّ الارتباك حول ميكانيك الكم ينشأ من طرح أسئلة لا معنى لها. الإجابة على اللغز هي: لا يوجد لغز في الأصل!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) زاك سافيتسكي Zack Savitsky: كاتب مشارك في مجلة Quanta Magazine. (المترجمة)
(**) الموضوع أعلاه ترجمة للحوار المنشور في مجلة Quanta Magazine (التي تُعنى بالأفكار والمفاهيم الحديثة) بتاريخ 29 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2025. العنوان الأصلي للموضوع المنشور باللغة الإنجليزية هو:
Carlo Rovelli’s Radical Perspective on Reality
***********************
المصادر :
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)
– موقع «الشرق الأوسط»
– موقع القدس العربي
– موقع الشرق الاوسط
– مجلة الحرف والكلمة
– الإتحاد العربي للثقافة
– موقع سبق
– موقع الجزيرة .نت
– موقع صحيفة عكاظ
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN
.bbc /arabic
– موقع (اليوم السابع)
– موقع موزاييك
– جريدة الدستور
– موقع العربي الجديد
– موقع : – الجزيرة .نت
– سكاي نيوز عربية – أبوظبي
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم
– العربية .نت – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
************


