بين عبادة الأسلاف وطقوس الخصوبة ( طقوس القرابين في أوغاريت )..- تقديم الباحث:د.غسان القيم.

طقوس القرابين في أوغاريت

بين عبادة الأسلاف وطقوس الخصوبة

دراسة في ضوء النصوص الأوغاريتية المكتشفة..
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
تُعدّ الديانة الأوغاريتية إحدى أكثر الديانات الكنعانية القديمة تركيبًا وثراءً من حيث البنية الطقسية واللاهوتية لا سيّما في ما يتعلّق بطقوس القرابين. إذ لا يمكن فهم الممارسة القربانية في أوغاريت بوصفها طقسًا موجّهًا للآلهة فحسب بل باعتبارها نظامًا دينيًا متكاملاً يقوم على تفاعل ثلاثي الأبعاد: الآلهة – الإنسان – الأسلاف.
وتكشف النصوص الأوغاريتية المكتشفة في رأس شمرا عن ترابط وثيق بين طقوس الخصوبة الزراعية وعبادة الأسلاف (الرفائيم) وهو ترابط لا يظهر بذات الوضوح في ديانات معاصرة في المشرق القديم الأمر الذي يمنح الديانة الأوغاريتية خصوصيتها اللاهوتية والأنثروبولوجية.

تشير النصوص الطقسية الأوغاريتية إلى أنّ القرابين لم تكن فعلًا مناسباتيًا بل ممارسة دورية مرتبطة بالتقويم الزراعي وبالأعياد الدينية.
وقد تنوّعت القرابين بين:

قرابين سائلة (الماء- الخمر- الزيت)

قرابين حيوانية

ولائم طقسية جماعية
غير أنّ اللافت في هذه الطقوس هو اتجاه حركة القربان.. فبدل أن يقتصر على الصعود الرمزي نحو السماء نلاحظ حركة معاكسة تتمثّل في سكب السوائل إلى باطن الأرض سواء عبر المذبح أو داخل المقابر وهو ما يحمل دلالة عقائدية عميقة.

ثانيًا: الرفائيم (rpum) – الأسلاف في النصوص الأوغاريتية:

  1. مفهوم الرفائيم.

ترد كلمة رفائيم (𐎗𐎔𐎀𐎎𐎎 – rpum) في عدد من النصوص الأوغاريتية، لا سيّما في النصوص الطقسية (KTU 1.20–1.22)، وتشير إلى:

أسلاف ملوكيين

أجداد مؤلَّهين جزئيًا

قوى حامية وفاعلة في العالم السفلي..
وكنت قد اشرت إليها في منشور سابق عن طقس تكفين أحد الملوك المتوفين في اوغاريت..
ولا تُقدَّم الرفائيم بوصفهم أرواحًا هامدة، بل بوصفهم كيانات مشاركة في الطقوس والولائم.

  1. نصوص وليمة الرفائيم
    في أحد النصوص الطقسية نقرأ:
    “ليُدعَ الرفائيم.
    ليجلسوا في الوليمة.
    ليشربوا الخمر.
    وليباركوا الأرض.”
    هذا النص بوضوح على أنّ القربان لا يُقدَّم للآلهة وحدها بل للأسلاف أيضًا ضمن تصور ديني يرى في الأسلاف حلقة وسيطة بين البشر والآلهة.
    تشير الأدلة النصية والأثرية إلى ممارسة طقوس الخصوبة تقوم على سكب السوائل فوق المذبح لتنساب بعد ذلك إلى داخل الأرض.
    ويُفهم هذا الفعل في ضوء تصور كنعاني عام يرى أنّ:
    الأرض كائن حي
    باطن الأرض موضع الأسلاف

الخصب نتيجة تفاعل بين السماء والأرض والأسلاف
لا تفصل الديانة الأوغاريتية بين الفضاء الجنائزي والفضاء الطقسي.
فالمقبرة ليست مكانًا للنهاية بل امتداد للمعبد حيث يُعاد إدماج الأسلاف في دورة الحياة الزراعية.
في أسطورة بعل يمثّل نزول الإله إلى العالم السفلي وانقطاع المطر حالة موت كوني مؤقت.
وعودته تقترن بعودة الخصب:
“تمطر السماء زيتًا،
وتفيض الأودية خمرًا.”
غير أنّ النصوص الطقسية توضح أنّ هذا الخصب لا يتحقق بفعل الإله وحده بل بتفعيل دور الأسلاف الذين أصبحوا جزءًا من الأرض نفسها.
وهنا يتجلّى التوازي البنيوي بين:

نزول بعل وجود الأسلاف في باطن الأرض

عودة بعل بركة الأسلاف للأرض

تُظهر هذه المعطيات أنّ طقوس الديانة الأوغاريتية:

لا تفصل بين الحياة والموت

لا ترى في الأسلاف كائنات غائبة

تجعل من الذاكرة الجماعية شرطًا للخصب والاستمرار
وهو ما يفسّر بقاء آثار هذه الممارسات في العادات الشعبية في الساحل السوري حتى اليوم في طقوس سكب الماء واحترام الأرض وربط البركة بالأجداد.
تكشف طقوس القرابين في أوغاريت عن رؤية دينية عميقة للحياة تقوم على الاستمرارية لا القطيعة وعلى الشراكة بين الأحياء والأسلاف.
ومن خلال النصوص الأوغاريتية، يتضح أنّ الخصب ليس فعلًا إلهيًا معزولًا بل نتيجة تفاعل معقّد بين السماء والأرض ومن سكنوا الأرض وصاروا منها.

إنها أوغاريت التي لم ترَ في الموت نهاية بل ذاكرة حيّة تُسقى القرابين فتُثمر حياة.

عندما أكتب عن مدينة أوغاريت عن عاداتها طقوسها الروحية حياتها اليومية أشعر بأن نبض الحياة يعود إليها..
وإن الألواح الفخارية ما زالت دافئة خرجت تواً من فرن الشي..

سرد تاريخي
“”””””””””””””””

عاشق اوغاريت..غسّان القيّم

المراجع العلمية:
“”””””””””””””””””””

  1. Marguerite Yon, Ugarit: History and Archaeology, Eisenbrauns, 2006.
  2. Mark S. Smith, The Rituals and Myths of the Feast of the Goodly Gods of KTU 1.23, Atlanta, 1987.
  3. Dennis Pardee, Ritual and Cult at Ugarit, Society of Biblical Literature, 2002.
  4. J. C. de Moor, An Anthology of Religious Texts from Ugarit, Leiden, 1987.
  5. الحوليات الأثرية السورية، المديرية العامة للآثار والمتاحف، دمشق..

فيما يلي ترجمة عربية دقيقة ومنهجية لهذه المراجع.

  1. مارغريت يون،
    أوغاريت: التاريخ وعلم الآثار،
    إيزنبرونز (Eisenbrauns)، 2006.
  2. مارك س. سميث،
    الطقوس والأساطير الخاصة بعيد الآلهة الحسنى في النص الأوغاريتي KTU 1.23،
    أتلانتا، 1987.
  3. دينيس باردي،
    الطقوس والعبادة في أوغاريت،
    جمعية الأدب الكتابي (Society of Biblical Literature)، 2002.
  4. ج. ك. دي مور،
    مختارات من النصوص الدينية الأوغاريتية،
    ليدن، 1987. الصورة المرفقة بعدستي مذبح كانت تقام عليه طقس القرابين موجود ضمن القصر الملكي الكبير في اوغاريت..

أخر المقالات

منكم وإليكم