بحسب جورج أورويل ما الذي جعل شكسبير عظيمًا؟

بقلم: مايكل لوكيسي، ترجمة حسين جرود

لا يصادف 23 نيسان عيد القديس جورج، شفيع إنجلترا، فحسب، بل هو أيضًا ذكرى ميلاد ووفاة ويليام شكسبير، أعظم شاعر أنجبته تلك الأمة. غير أن هذا اليوم، الذي كان للاحتفاء بالتراث الإنجليزي، وبالأخص شكسبير، بات اليوم ميدانًا لصراعات أيديولوجية تسعى إلى إبعاد الغرب عن هذا الإرث العظيم. مثلًا، أعلنت مؤسسة شكسبير بيرثبلايس ترست في ستراتفورد الشهر الماضي أنها ستزيل “الطابع الاستعماري” عن مجموعاتها، بحجة أن السرديات التي تمجد عبقرية شكسبير “تخدم أيديولوجيا الرجل الأبيض الأوروبي”. وقد تبنى طلاب راديكاليون في الجامعات هذا الطرح أيضًا، زاعمين أن حذف أعمال شكسبير من المناهج والبرامج الأدبية قد يسهم بطريقة ما في دعم قضية العدالة الاجتماعية.لكن، لم يكن هؤلاء الأيديولوجيون طبعًا أول من اعترض على شكسبير من منطلقات أخلاقية. فقد طرح الكاتب الروسي الكبير ليو تولستوي نسخة أكثر تعقيدًا من هذا النقد في مقال كتبه عام 1906. جادل فيه، خلافًا لما هو شائع، بأن شكسبير يفتقر إلى الإحساس بالأخلاق المتعالية، مشيرًا إلى أن مسرحياته تنمّ عن موقف أرستقراطي جوهري ولا تبالي بمعاناة الطبقات العاملة. وخلص إلى أن شكسبير لا يملك فلسفة متماسكة؛ فهو في أحسن الأحوال ساخر، إن لم يكن عدميًّا.ربما، من المفارقات، أن أبرز مدافع عن شكسبير الأرستقراطي كان اشتراكيًا ديمقراطيًا، جورج أورويل. ففي مقالين كتبهما عامي 1941 و1947، جادل أورويل بأن الكاتب الروسي (تولستوي) أساء فهم شكسبير، ربما بدافع الحسد، لكن أيضًا نتيجة تصور خاطئ جوهري لطبيعة الفن.

يعترف أورويل بأن شكسبير قد لا يكون مفكرًا منهجيًا أو متماسكًا تمامًا، وربما لم يكن دقيقًا في حبكاته، لكنه ينفي أن تكون هذه الأسباب كافية لطرده من مكتباتنا. لقد أبدع شكسبير حقًا أعمالًا ذات جمال مذهل، وأورويل دافع بشدة عن أن هذا الجمال يستحق أن يُصان ويُحتفى به.تستند دفاعات أورويل إلى فكرة أن شكسبير، في الحقيقة، لا يحتاج إلى دفاع. كتب أورويل: “لا يوجد جدل يمكن أن تدافع به عن قصيدة”، لأن “القصيدة تدافع عن نفسها بأن تبقى، أو لا يمكن الدفاع عنها أبدًا”. المسرحية ليست كالمعالجة الفكرية أو الفلسفية، ولا تتطلب المنطق المحكم نفسه. فالشاعر يهدف إلى التأثير في القلوب، وهو أمر نجح فيه شكسبير بوضوح مع ملايين البشر على مدى قرون. كتب أورويل: “بإمكانه النجاة من ظهوره مفكرًا مشوشًا، وأن مسرحياته مليئة بالاحتمالات غير الواقعية… لا يمكن تقويضه بهذه الوسائل أكثر مما يمكنك أن تحطِّم زهرة بإلقاء موعظة عليها”. إن التبجيل المستمر الذي يشعر به الكثيرون تجاه مسرحيات شكسبير دليل كافٍ على فشل هجوم تولستوي.ومع أن أورويل كان يقرّ بأن تولستوي لم يكن “بوريتانيًا سوقيًا عاديًا”، فإنه رأى في تطرُّفه الأخلاقي رفضًا مفاجئًا لفنّية التعبير من أحد أعظم الكتّاب الذين عرفهم التاريخ. ويرى أورويل أن هذا الموقف يمكن عزوه جزئيًا إلى تحول تولستوي في أواخر حياته إلى نوع من الزهد الأناركي. ووفقًا لأورويل، فإن “الهدف الرئيسي لتولستوي في سنواته الأخيرة كان تقليص نطاق الوعي البشري”، وانفصاله عن العالم المادي هو وأتباعه.

ونتيجة لذلك، بات يؤمن بأن “الأدب يجب أن يتكوّن من أمثال، منزوعًا من التفاصيل، ويكاد يكون مستقلًا عن اللغة”. ورغم الجمال الأدبي الذي أبدعه تولستوي بنفسه، انتهى به المطاف إلى اعتناق موقف أخلاقي متعالٍ جدًا.وكان هناك شيء، كما حذّر أورويل، “تعصبي وتحقيقي في هذه النظرة”. فالمذاهب الأيديولوجية غالبًا ما تكون ذريعة للتسلط وإرادة الهيمنة. ويصل أتباعها إلى حد كره كل ما يتحدى سلطتهم، فيسعون إلى الهيمنة التامة على السياسة والثقافة. وكان أورويل واضح الرؤية في تحذيره من الطريقة التي يستعبد بها الأيديولوجيون “عقل الإنسان العادي، ويفرضون عليه أفكارهم حتى في أدق التفاصيل”.

من البديهي القول إن الأيديولوجيين في أيامنا هذه أسوأ بكثير. فهم لا يملكون شيئًا من الاحترام الذي كان يكنّه الكونت تولستوي للفن الأصيل، لكنهم يحملون غضبًا أشد تجاه الماضي. يبدو أن نوعًا من الهمجية الثقافية آخذٌ في الصعود، وأتباعه لا يكتفون بكتابة كتيّبات أخلاقوية متعجرفة، بل يذهب بعضهم، بطريقة درامية، إلى ارتكاب أفعال إرهابية حرفيًا ضد أعمال فنية عظيمة. لكن الجهود التي يبذلها البيروقراطيون الذين يديرون المؤسسات الفنية والأدبية من أجل تقويض أعظم مفكري الحضارة الغربية قد تمثل تهديدًا أكبر لتراثنا.في نهاية المطاف، فإن فشل تولستوي في “فضح” شكسبير -وفشل الأيديولوجيين في “إلغائه”- يُظهر أن الشعراء ليسوا مجرد كتّاب سياسيين أو دعاة. إذ يتناول فنّهم نظرة أوسع للحياة الإنسانية. وكما قال أورويل: “إذا قرأ المرء شكسبير بانتباه مرة واحدة، يصعب أن يمر عليه يوم دون أن يقتبس منه، لأن قليلًا من المواضيع المهمة في الحياة لم يناقشها شكسبير أو يلمّح لها في مكان ما، بطريقته غير المنهجية ولكن المضيئة”.تتحدث مسرحيات شكسبير عن كل جانب من جوانب التجربة الإنسانية -ولا شيء يفوق الملك لير في عمق التعبير عن هذه التجربة- وهي المسرحية التي عارضها تولستوي بشدّة.وهي بالفعل مسرحية غريبة، بحسب كل الروايات. تستند إلى مزيج من الرموز الوثنية والمسيحية، إذ يروي شكسبير حكاية ملك مسنّ يتنازل عن مسؤوليات العرش، ليشهد ويقاسي سلسلة من الكوارث التي تترتب على ذلك. تكلفه غطرسته ليس فقط سلطته، بل أيضًا أعزّ ما يملك. إنها ربما أكثر مآسي شكسبير إيلامًا، ومن أكثرها صعوبة في التفسير. وقد كرهها تولستوي على وجه الخصوص لما عدَّه غيابًا للانسجام فيها، لكن أورويل، في المقالات المذكورة آنفًا، بيّن بجدارة قيمتها الفنية. ومع ذلك، يوجد جانب بعينه في الملك لير يُظهر الأهمية الفلسفية العميقة لشعر شكسبير.في منتصف مسرحية الملك لير تقريبًا، يمرّ لير بلحظة حادّة من الوضوح الأخلاقي تعكس جوهر المخيلة الأخلاقية الشكسبيرية. بينما يتجول في أرض قاحلة وسط عاصفة هوجاء، يجد هو ورفاقه كوخًا صغيرًا ليحتموا فيه. لكن بدلاً من أن يدخل أولًا، يطلب لير من أصدقائه أن يسبقوه إلى الداخل، في حين يبقى هو أمام العاصفة ليصلي. وفي خطاب وجيز، يتأمل بحزن حال رعاياه الذين يعانون:”أيها البائسون العراة، أينما كنتم،أنتم الذين تصمدون أمام هجمات هذه العاصفة القاسية،كيف تحمي رؤوسكم العارية وبطونكم الجائعة،وثيابكم الممزقة المثقوبة،أنفسكممن فصولٍ كهذه؟ آه، لقداعتنيت بهذا الأمر قليلًا جدًّا. خذي دواءك، أيتها العظمة،وعرّضي نفسك لتشعري بما يشعر به البائسون،لعلّكِ تَهِبِينَ الفائض لهم،وتُظهري للسماء عدالةً أكبر”.

بعبارة أقل شاعرية، فإن تجربة لير الشخصية مع المأساة الرهيبة زادت من قدرته على الفهم والتعاطف مع معاناة الآخرين. فقد علّمته رحلته من قمة المُلك إلى حافة الجنون شيئًا كونيًا عن الطبيعة البشرية، شيئًا مكّنه من فهم رعاياه بشكل أفضل قليلًا. فإذا كان الأيديولوجيون يسعون، بحسب تعبير أورويل، إلى “تضييق نطاق الوعي البشري” وفق عقائدهم المحدودة، فإن إيمان شكسبير الشاعري، على النقيض من ذلك، يرى أن المسرح والكلمة المكتوبة قادران على توسيع هذا الوعي.

ومع تسارع الثورة الرقمية، وازدياد انغلاقنا داخل أصداء غرف الإنترنت المغلقة، فإننا في أمسّ الحاجة إلى ذلك الإيمان الشاعري لاستعادة ثقافة مشتركة. فالأيديولوجيون الذين يزدَرون شكسبير لا يجعلون العالم أكثر رحمة، بل أكثر ضيقًا فحسب. والخبر السار هو أن جهودهم هذه في النهاية محكوم عليها بالفشل. كتب أورويل: “فبدلًا من أن يُنسى شكسبير نتيجة لهجوم تولستوي، فإن الهجوم نفسه هو ما جرى نسيانه تقريبًا”. وسيُقال الأمر نفسه عن الهمجية الثقافية المعاصرة. فرغم صرامتها الأخلاقية، فإن الأيديولوجيا ستتلاشى في نهاية المطاف. أما شكسبير، كما هو حال كل فن عظيم، فسيبقى.

المصدر صفحة المسرح العالمي

أخر المقالات

منكم وإليكم