.
جان أرب: النحت قصيدة بلا كلمات والقصيدة منحوتة بلا حجر
مروان ياسين الدليمي
من الصعب أن نلج عالم جان أرب (1886 ـ 1966) من زاوية واحدة. فهو ليس مجرد نحات يقيم علاقة بين الكتلة والفراغ، ولا شاعر يترك للكلمة أن تنزف موسيقاها على الصفحة. إنما هو الإثنين معا، وأكثر. في كل عمل من أعماله نرى كائنًا خرج من تربة الخيال، ليقيم في فضاء ملموس، بين الحجر والخشب والبرونز، لكنه يظل محتفظًا بنبضه السري، كأنه يرفض الانصياع كليًا لقوانين المادة. هذه المفارقة هي ما تجعل تجربة أرب فريدة: حضور مادي كثيف، يقابله انفتاح على المطلق، على اللاشكل الذي يصر على أن يكون شكلاً.
بدايات مرتبكة تنذر بالتحول
وُلد جان أرب في ستراسبورغ عام 1886، عند تقاطع الثقافات الألمانية والفرنسية. هذا التعدد لم يكن مجرد ظرف جغرافي، بل صار قدرًا جماليًا. فقد وجد نفسه منذ البداية بين لغتين، بين حضارتين، بين رؤيتين للفن. درس بداية في مدارس الفنون في ستراسبورغ وباريس، لكنه لم يجد نفسه في القواعد الأكاديمية التي كانت تفرض على الفن لغة صلبة لا تقبل الانحراف. سرعان ما غادر تلك المؤسسات، باحثًا عن فضاء يسمح له بأن يُصغي لصوت داخلي لم يكن بعد قد تبلور، لكنه كان يلحّ.
كانت أوروبا حينها على أعتاب التحولات الكبرى: الحرب العالمية الأولى تقترب، والنزعات الفنية الحديثة تبحث عن كسر كل ما هو تقليدي. لم يكن أرب ليقف بعيدًا. انجذب إلى الدادائية في زيورخ، تلك الحركة التي أرادت أن تحطم القيم السائدة، وتبني جماليات جديدة من رحم الفوضى. لكن حتى في خضم الدادائية، ظل أرب مختلفًا؛ لم يكن هاجسه الصدمة وحدها، بل كان يبحث عن لغة خاصة، لغة أكثر هدوءًا، وأكثر عمقًا.
عند أرب لا يمكن فصل الشعر عن النحت. في قصائده نلمس نفس التكوين العضوي الذي سنراه لاحقًا في منحوتاته. الكلمات عنده لا تخضع لقواعد المنطق النحوي، بل تتوزع كما تتوزع الأشكال على سطح منحوتة: متجاورة، متنافرة أحيانًا، لكنها تصنع في النهاية إيقاعًا داخليًا لا يمكن إنكاره.
وفي المقابل، منحوتاته ليست كتلًا صامتة، هي أشبه بكائنات حية، تتنفس في الفضاء، تتكلم بلغة بطيئة، لكنها واضحة. لقد استطاع أن يحرر النحت من صرامة الزوايا والخطوط، ليجعله يتدفق بانحناءات لينة، كأنما الطبيعة نفسها قررت أن تعيد تشكيل ذاتها في صورة عمل فني.
كان يرى أن الفن ينبغي أن يقترب من الطبيعة، لا بتقليدها، بل بمضاهاة طريقتها في الخلق: النمو العضوي، التدفق الحر، التحول المستمر. ومن هنا جاءت أشكاله التي لا يمكن ردّها إلى هندسة صارمة، بل إلى إيماءة، إلى انحناء، إلى بروز خجول، إلى امّحاء تدريجي. منحوتاته أشبه ببذور، أو أعضاء، أو خلايا تكبر وتتشكل.
جدلية الشكل واللاشكل
تكمن عبقرية أرب في قدرته على جعل المشاهد يتأرجح بين الشكل واللاشكل. حين تنظر إلى إحدى منحوتاته، قد يخطر لك أنها بيضة، أو صخرة مصقولة، أو عضو جسدي. لكنها لا تستقر عند هذا التحديد، إذ تنسحب سريعًا نحو مجرد كتلة لينة لا تريد أن تُعرّف. هنا يكمن سر سحرها: ليست تمثالًا لشيء بعينه، وليست تجريدًا صرفًا. إنها في المنطقة الرمادية، حيث تتجاور الدلالات، وحيث كل متلقٍّ يرى ما يخصه هو وحده.
هذه الجدلية لا تنفصل عن الفلسفة التي كان أرب يتبناها: الإيمان بالعفوية، بالصدفة، بالطبيعة وقدرتها على إنتاج الجمال من دون خطة مسبقة. في قصائده كان يلجأ إلى تقنيات قصّ الكلمات وإعادة ترتيبها عشوائيًا، ليترك للصدفة دورًا في توليد المعنى. وفي منحوتاته، كان يترك يده تتبع الانحناء الذي تمليه الكتلة، بدلًا من فرض تصميم عقلاني صارم. كأنما كان يثق بأن الجمال الحقيقي يتكشف حين نترك المادة نفسها تُرشدنا.
النحت العضوي والحداثة
في تاريخ النحت الحديث، يُعتبر أرب أحد أهم من أسس لما يسمى بـ «النحت العضوي». هذا التيار الذي كسر ثنائية التمثيل والتجريد، وابتكر لغة جديدة تستلهم الكائنات الحية، لا لتعيد تصويرها، بل لتُعيد اختراعها. وهو بهذا مهّد الطريق أمام أجيال لاحقة من النحاتين مثل هنري مور وباربرا هيبورت، الذين وجدوا في أعماله نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه النحت حين يتصالح مع الطبيعة لا باعتبارها موضوعًا، بل باعتبارها مبدأ في الخلق.
لقد أثبت أن الحداثة لا تعني بالضرورة القطع مع الطبيعة، بل يمكنها أن تعني أيضًا الغوص أعمق في جوهرها، في طريقتها في التكوين. وفي زمن كانت فيه الحركات الطليعية تنشغل بالزوايا الحادة والأشكال الهندسية (كما في التكعيبية والبنائية الروسية)، جاء أرب ليذكر بأن هناك جمالًا آخر، أكثر لينًا، وأكثر إنسانية.
البُعد الروحي في أعماله
على الرغم من أن أرب لم يكن فنانًا دينيًا بالمعنى التقليدي، فإن في أعماله بعدًا روحيًا لا يمكن إنكاره. تلك الأشكال التي تنمو كالكائنات، والتي تفيض بسلام داخلي، تحمل في جوهرها إشارة إلى ما هو أبعد من المحسوس. ثمة نزوع إلى المطلق، إلى ما يتجاوز حدود المادة. وربما كان هذا ما جعل أعماله تبعث على الطمأنينة، وتملك قدرة على التأمل.
إنها أعمال لا تصرخ، ولا تطالبك بالانبهار الفوري. بل هي أعمال تدعوك إلى الصمت، إلى الإنصات، إلى الدخول في حوار طويل معها. ومع مرور الوقت، يكتشف المتلقي أن ما بدا بسيطًا، يخفي في طياته طبقات من المعنى، وأن الانحناء الواحد يمكن أن يفتح أبوابًا لا حصر لها من التأويل.
بعد وفاته عام 1966، ظل إرث أرب حاضرًا في مسار الفن الحديث. ليس فقط من خلال أعماله الموزعة في المتاحف الكبرى، بل أيضًا من خلال الفلسفة التي بثها في الفن. لقد ترك درسًا بليغًا: أن العفوية ليست نقيضًا للجمال، بل هي طريق إليه؛ وأن الشكل لا ينبغي أن يُفرَض بالقوة، بل يُترك لينبثق كما تنبثق البذرة إلى نبتة.
هذا الدرس ظل يتردد في أعمال فنانين لاحقين، في النحت كما في الرسم والشعر. يمكن القول إن أرب أسس نوعًا من الأخلاق الجمالية، قوامها الثقة في الحياة نفسها، في قدرتها على أن تُبدع بدون وصاية.
بين السيرة والرمز
ما يلفت في مسيرة أرب هو أنه عاش حياة متوازية مع فنه. لم يكن الفنان الذي ينعزل في محترفه فحسب، بل كان حاضرًا في قلب التحولات السياسية والثقافية في أوروبا. شهد حربين عالميتين، وعاش التمزق بين ثقافتين، لكنه حوّل هذا كله إلى طاقة خلاقة. وحتى في سنواته الأخيرة، حين نالت منه المآسي الشخصية، ظل وفيًا لرؤيته: البحث عن سلام داخلي، عن لغة توحد الإنسان بالعالم.
في هذا المعنى، يمكن قراءة أعماله كسيرة ذاتية مشفّرة: كل انحناءة هي انعكاس لحركة داخلية في حياته، وكل كتلة لينة هي محاولة لتليين صلابة الواقع.
إذا أردنا أن نختصر تجربة جان أرب في عبارة واحدة، يمكن القول إنه «شاعر المادة». لقد منح الحجر والبرونز والخشب صوتًا لم يكن مسموعًا من قبل. علّمنا أن النحت يمكن أن يكون قصيدة بلا كلمات، وأن القصيدة يمكن أن تكون منحوتة بلا حجر. وفي هذا التلاقي بين الكلمة والكتلة، بين الشعر والنحت، ترك إرثًا سيظل مفتوحًا، لا يُختَتم بتأويل واحد، بل يظل حيًا بقدر ما تظل الحياة قادرة على أن تولّد أشكالًا جديدة.
وهكذا، يظل أرب شاهدًا على أن الفن في جوهره ليس سوى محاولة لفهم هذا اللغز الكبير: كيف يمكن للمادة أن تنطق، وللشكل أن يظل محتفظًا بأسرار اللاشكل
******************
المصادر:
– موقع القدس العربي
– موقع الشرق الاوسط
– مجلة الحرف والكلمة
– الإتحاد العربي للثقافة
– موقع سبق
– موقع الجزيرة .نت
– موقع صحيفة عكاظ
– دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN
.bbc /arabic
– موقع (اليوم السابع)
– موقع موزاييك
– جريدة الدستور
– موقع العربي الجديد
– موقع : – الجزيرة .نت
– سكاي نيوز عربية – أبوظبي
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم
– العربية .نت – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
****


