بقلم الشاعر عبد الواسع السقاف
هل الغموض في الشعر عمق أم تكلّف؟
من أعمق وأقدم الإشكالات النقدية في الشعر العربي مسألة الغموض، وقد عادت بقوة في الشعر الحديث، حتى صارت معيارًا يُمدَح به النص عند قومٍ، ويُدانُ عند قومٍ آخرين.سنحاول هنا تفكيك الغموض ببساطة لنفهم ما هي الإشكالية:
أولًا: ما هو الغموض؟ الغموض في الشعر هو استخدام اللغة بطريقة إيحائية ومكثفة تخلق طبقات من المعنى وتدعو القارئ للتأويل والتفكير بدلاً من التعبير المباشر والواضح. (لكن ليس كل ما لا يُفهم غموضًا فنيًا).أنواع الغموض:
1.غموض ناتج عن العمق: سببه كثافة الدلالة، تعدد المعاني، الرمز. مثال – المتنبي:”ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِوأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ”الغموض هنا في الفكرة لا في اللغة: هل الشقاء معرفة؟ هل الجهل نعمة؟البيت يُقرأ فلسفيًا ونفسيًا واجتماعيًا.(يعتبر هذا غموض عميق مشروع). 2.غموض ناتج عن التكلّف سببه تفكك المعنى، أو اضطراب الصورة، أو ضعف الرؤية.مثال من قصيدة حداثية: “أمشيولا طريق،أتكئ على ظلي،فيسقط”لماذا يُعدّ نصًا إشكاليًا؟* اللغة شديدة البساطة: لا ألفاظ غريبة ولا تركيب معقّد. ومع ذلك، المعنى غير محسوم: * هل المشي وجودي؟ * هل الطريق غياب المعنى؟ * لماذا يسقط الظل؟ (الهوية؟ اليقين؟ الذات؟) موضع الإشكال: النص لا يقدّم سياقًا واضحًا يرشّد التأويل، لكنه في الوقت نفسه لا يبدو فارغًا. القارئ يشعر بـدلالة محتملة دون أن يستطيع تثبيتها. وهنا يختلف الحكم النقدي:* عند بعضهم: هذا غموض رؤيوي مشروع * وعند آخرين: إيحاء بلا كفاية دلالية 3. غموض لغوي يأتي بألفاظ مهجورة أو تركيب معقّد بلا ضرورة. مثال – أبو تمام:”إقدامُ عمروٍ في سماحةِ حاتمٍفي حلمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ”أين الغموض؟ • الجملة بلا فعل ظاهر • تراكم إضافات • يحتاج القارئ إلى إعادة تركيب النحو.لماذا هو غموض لغوي؟ • المعنى واضح بعد التفكيك • الغموض في الصياغة لا في الفكرة (وهو غموض مقبول لأنه يخدم الإيجاز والكثافة.ويصبح مرفوضًا إذا استُخدم بلا حاجة فنية). 4. غموض رؤيوي: أي رؤية فلسفية أو نفسية تحتاج قارئًا شريكًا.مثال – قول أبو العلاء المعرّي:”هذا جناهُ أبي عليَّوما جنيتُ على أحدِ”أين الغموض هنا؟ في الأسئلة التي يُثيرها النص: • هل يتبرأ من الحياة؟ • هل يرفض التناسل؟ • هل يتكلم أخلاقيًا أم وجوديًا؟لماذا فيه رؤية؟ لأن البيت مفهوم لغويًا، لكن دلالته مشروطة بفهم فلسفة الشاعر. (الغموض هنا نتيجة رؤية شاملة للحياة).…….
ثانيًا: الغموض في الشعر العربي القديم:خلافًا للشائع، الغموض ليس وليد الحداثة.أمثلة: قول المتنبي السابق “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله” فهو بيت واضح لفظًا، عميق الدلالة، لا يستهلك في قراءة واحدة.وكذا أتهم أبو تمام بالغموض فقالوا له:«لمَ لا تقول ما يُفهم؟» فأجاب: «ولِمَ لا تفهمون ما يُقال؟» (والخلاف الجدلي هنا: هل على الشاعر أن يهبط إلى مستوى القارئ أم يرقى القارئ إلى فِكر وثقافة الشاعر)؟
ثالثًا: التحوّل في الشعر الحديث: مع دخول الرمزية والسريالية في الشعر العربي لم يعد الغموض عرضًا، بل صار منهجًا شعريًا.طيب ما هي الدوافع التي جعلت الشعر الحديث يتحول إلى شكل أكثف من الغموض: • الحاجة للتعبير عن اللاوعي • كسر الخطاب المباشر • الهروب من الرقابة • ومحاولة ترجمة القلق الوجودي(لكن المشكلة بدأت حين: صار الغموض غاية لا وسيلة).
رابعًا: متى يكون الغموض عمقًا؟يكون الغموض عمقًا إذا توفرت فيه الشروط الآتية: 1. وجود رؤية واضحة عند الشاعر (ما يكتبه بغموض لا بد أن يكون معلومًا عند قائله على الأقل) 2. تماسك النص (بحيث الصورة تقود إلى صورة أخرى، لا تقطعها) 3. إمكانية التأويل لا الاستغلاق (القارئ يتعب في محاولة الفهم، لكنه يصل في النهاية) 4. الاقتصاد اللغوي (كل لفظة تؤدي وظيفة وليست مجرد زيادات لا معنى لها).مثال: أشعار السيّاب، أدونيس (في نصوصه المُحكمة)، محمود درويش.
خامسًا: متى يكون الغموض تكلّفًا؟يكون الغموض تكلّفًا حين: 1. لا تستطيع كشاعر شرح نصه إن سُئل! 2. تُراكم الاستعارات بلا رابط 3. اعتماد ألفاظًا غريبة لستر خواء المعنى. 4. النص لا يفتح أي أفق للتأويل.(وهنا يصبح الغموض بلا مفاتيح)
سادسًا: موقف النقادالنقاد القدماء: يقدّمون الوضوح مع العمق. مثلا قال الجاحظ: «أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه» وأنا شخصيا أميل لهذا الموقف.النقاد المحدثون: يرون الغموض شرطًا للحداثة أحيانًا. لكنهم يميّزون بين الغموض الخلّاق، والإبهام العقيم.أخيرا القاعدة الأساسية: إذا لم يزد الغموض المعنى، فهو عبءٌ عليه. فالشعر ليس لغزًا رياضيًا، بل مساحة جميلة للتأمل والتّدبر والانسجام.