فلسفة جذور الشكل وبدايات المعنى
د. عصام عسيري
في تاريخ الفنون والثقافة البصرية، لم تكن الأشكال الهندسية والألوان الأساسية مجرّد أدوات للإنشاء أو عناصر زخرفية، بل حملت عبر العصور شحنة رمزية عميقة جعلتها جزءاً من الفلسفة التي ترى في الشكل لغةً سابقة للكلمة، وأقدم من أي نظام معرفي آخر. فالنقطة والخط والمثلث والمربع والدائرة ليست مجرد أشكال أولية، والأصفر والأحمر والأزرق ليست فقط ألوانٌ أساسية بل هي “قاموس الوجود” الذي بُنيت عليه فنون الحضارات الكبرى، من الرسوم الجدارية في الكهوف الأولى إلى اللوحات التجريدية في القرن العشرين وما بعده.
فما الفلسفات الكامنة خلف كل شكل، ودلالاته في الفن والروح والذهن الإنساني، من منظور ثقافي موسّع يربط الماضي بالحاضر؟.
أولاً: النقطة… بذرة الوجود وبداية الحركة
النقطة هي الكتلة الصفرية التي تبدأ منها كل الأشياء كالنُطفة التي خُلق منها الإنسان. هي “اللاشيء” الذي يحمل إمكانية “الشيء”. في الهندسة، النقطة بلا أبعاد، لكنها في الفلسفة البصرية أشبه بالومضة الأولى التي تشعل الوعي.
في الرياضيات والفلسفة: النقطة هي الأصل؛ منها يُولد الخط، ومنها تُبنى الأشكال، لذلك رأى فلاسفة اليونان أنها أساس الإدراك الهندسي.
في الفنون الشرقية: النقطة هي “النَفَس” الأول للفنان، وتظهر في الخط العربي بوصفها تحديداً لمكان خروج الحرف وقيمته.
في الحداثة: حوَّل فاسيلي كاندينسكي النقطة إلى رمز للاهتزاز الأولي في اللوحة، باعتبار أن كل موسيقى لونية تبدأ بنقطة.
النقطة إذن ليست مجرد بداية الحياة؛ إنها لحظة ميلاد المعنى أيضًا.
ثانياً: الخط… أثر الحركة وتحوّل السكون إلى زمان ومكان
إذا كانت النقطة هي الوجود، فالخط هو مسار المكان والزمن. إنه “نقطة متحركة” بتعبير بول كلي، وهو أثر الجسد والعقل معاً. عندما يتحرك الفنان، يولد الخط؛ وعندما يتكرر الخط، يولد الإيقاع.
في الفنون القديمة: الخطوط الأولى على جدران الكهوف كانت محاولة لإنشاء نظام بصري يربط الصياد بحركته وفريسته.
في الخط العربي: يتحوّل الخط إلى روح، ويغدو شكلاً من أشكال الرياضيات الروحية؛ فالحرف مبني على قواعد هندسية، موازين صارمة لكنه ينفتح على اللانهاية في التكوين.
في الفن الحديث: أصبح الخط تجريداً خالصاً، أداة للكشف عن التوتر، الرغبة، الصراع، والحرية.
الخط هو أول “جسر” بين العقل والواقع، بين السكون والحركة.
ثالثاً: المثلث… رمز الإرادة والتوازن الديناميكي
المثلث هو أول شكل هندسي مغلق ينشأ من الخطوط. إنه شكل متوتر، يحمل طاقة صاعدة، مما جعله رمزاً للقوة منذ الحضارات القديمة.
معنى روحي وثقافي: استخدمته الثقافات القديمة لتمثيل الثالوثات الكونية: العقل، الروح، والجسد، أو الماضي، الحاضر والمستقبل.
دلالة فنية: زاويته الحادة توحي بالقوة والتحدي، ولذلك استخدم في تصميم الشعارات والهويات البصرية بوصفه رمزاً للاتجاه والحركة.
في العمارة: يظهر في الأهرامات بوصفه الشكل الأشد قدرة على مقاومة الزمن والعوامل الطبيعية، وكأنه يحمي داخله “سرّ البقاء”.
المثلث هو هندسة الإرادة، الشكل الذي يتحرك نحو الأعلى حتى وهو ثابت.
رابعاً: المربع… الاستقرار والحدّ والواقع المادي
بخلاف المثلث المتوتر، يقدّم المربع شعوراً بالثبات. إنه شكل الأرض، المادة، الجاذبية، حدود الاتجاهات الأربعة .
في الفلسفة القديمة: ارتبط المربع بعناصر الكون الأربعة (التراب، الماء، النار والهواء) لأنه يقسّم المساحة إلى أربعة اتجاهات مستقيمة.
دور المربع في الفن: اعتمده الفن الحديث –خاصة في مدرسة الباوهاوس– بوصفه رمز النظام والعقلانية والبناء الصناعي.
في التصميم: يوفّر المربع توازناً بصرياً واضحاً، ولذلك يُستخدم في اللوحات الهندسية، وفي توزيع المساحات داخل المعماري الداخلي.
المربع هو “قانون العالم”، الإطار الذي يحكم الأشياء، والحد الذي يحتاجه الإنسان ليبني منطقاً في وجوده.
خامساً: الدائرة… الكمال، اللانهائية، والعودة إلى الأصل
الدائرة هي الشكل الأكثر اكتمالاً في الثقافة الإنسانية. لا بداية لها ولا نهاية، كما لو أنها الزمن المطلق أو الكون المتصل.
في الحضارات القديمة: الشمس والقمر، البدايات والنهايات، كل ذلك صُوّر دائرياً.
في الروحانية والفلسفة: الدائرة هي رحلة الإنسان نحو الاكتمال الروحي، دائرة الذكر، ودورة الحياة والموت.
في الفنون البصرية: اتخذت مكانة خاصة من ماندالا العرب والآسيويين إلى أعمال فاسيلي كاندينسكي، مروراً بتناغم الدوائر لدى الفنانين المسلمين في الزخرفة الهندسية.
الدائرة هي هندسة الروح، الشكل الذي يوحد كل التناقضات في نسق واحد.
الرمزية المشتركة بين الأشكال الخمسة:
كل شكل من هذه الأشكال يحمل معنى مستقلاً، لكنه أيضاً جزء من نظام رمزي واحد:
النقطة: الوجود
الخط: الحركة
المثلث: الصعود والإرادة
المربع: النظام والثبات
الدائرة: اللانهاية والانبعاث
بهذا تتكوّن “فلسفة الشكل”، التي ترى أن كل تكوين فني مهما بلغ تعقيده، يمكن تفكيكه إلى هذه اللبنات الأولى، تماماً كما تتكون اللغة من أبجدية محدودة يولد منها عدد لا نهائي من المعاني.
تأثير هذه الفلسفة على الفن المعاصر:
في الفن العربي والغربي على السواء، عاد التركيز في السنوات الأخيرة إلى “الهندسة الروحية”، أي استخدام الأشكال الأولية لإنتاج تجارب بصرية ذات أبعاد فلسفية. يتجلى ذلك في:
الأعمال التجريدية الهندسية “الديستايل” والباوهاوس والسوبرماتية
تصميم الهويات البصرية
العمارة المعاصرة
الفن الرقمي والخوارزمي
أعمال الفنانين الذين يستلهمون الزخارف الإسلامية في بنية مجردة:
إن العودة إلى النقطة والخط والمثلث والمربع والدائرة والألوان الأساسية ليست عودة للماضي، بل اتصال بالجذور التي تُنبت المستقبل.
ختامًا: الأشكال الهندسية الأولية والألوان الأساسية ليست مجرد أدوات، بل هي مفاتيح لقراءة العالم. النقطة تذكّرنا ببداية كل فكرة، الخط يذكرنا بأن الحياة حركة، المثلث يرمز لطاقة الإرادة، المربع يضع القواعد، والدائرة تفتح أبواب اللانهاية.
هكذا يتجلّى الفن بوصفه نظاماً كونياً يقوم على البساطة القصوى، لكنه يحمل في داخله تعقيد الوجود الإنساني وتاريخه وأسئلته الكبرى.
الصور من إنتاجي ٢٠٢٥


