الذكاء الاصطناعي والإبداع الأدبي وجدلية الرفض والقبول

بقلم الشاعر عبد الواسع السقاف

تخيّل أن يكون شاعرك المفضل في المستقبل مجرد خوارزمية، أو آلة لا قلب لها ولا ذاكرة شخصية. فكرة تبدو أقرب إلى الخيال العلمي، لكنّها لم تعد بعيدة كما نتصور 🙂

بعيدًا عن هذا التخيل، تحوّل الحديث عن «إبداع الآلة» في عام 2025م من فرضية نظرية إلى واقع يفرض حضوره في النقاش الثقافي والأدبي، خصوصًا مع التطور المتسارع للنماذج اللغوية الكبيرة، وقدرتها المدهشة – بل والمقلقة أحيانًا – على محاكاة أساليب كبار الشعراء والكتّاب.وأمام هذا الواقع، انقسمت الآراء.

فريق يرى أن الآلة، مهما بلغت من دقة، لا يمكن أن تكتب أدبًا حقيقيًا، لأنها تفتقد الروح والتجربة. وفريق آخر يذهب إلى أن الإبداع يُقاس بالأثر لا بالمصدر، وأنّ النص الجميل يظل جميلًا بغضّ النظر عمّن كتبه. وبين هذين الرأيين، يقف كثيرون مترددين، متمسكين بالموروث الأدبي، ومتوجسين من هذا القادم الجديد. ويمكن تلخيص هذا الجدل المعاصر في رؤيتين متقابلتين:

أولًا: الرأي الرافض

الأدب فعل إنساني خالص يرى أصحاب هذا الاتجاه، ونحن منهم، أن الأدب الحقيقي لا يمكن أن يكون نتاج آلة، مهما بلغت قدرتها على المحاكاة، وذلك لعدة أسباب: أولها غياب (القصدية). فالأدب ليس مجرد ترتيب كلمات أو التزام وزنٍ أو صورة، بل هو فعل نابع عن إرادة داخلية ورغبة في التعبير.

الكاتب يكتب لأنه يريد أن يقول شيئًا، أن يبوح، أو يحتج، أو يتأمل. أما الآلة فلا تريد شيئًا، بل تحسب الاحتمالات وتنتج النص بناءً على بيانات سابقة.وثانيها غياب التجربة والمعاناة. فالشعر – في جوهره – ابنُ التجربة الإنسانية: ألم، حب، فقد، خوف، قلق وجودي. والآلة لا تجوع، ولا تحب، ولا تخاف الموت. لذلك تظل نصوصها – مهما بدت متقنة – محاكاة باردة لمشاعر لم تعشها، وكأنها جسد بلا روح.أما السبب الثالث فهو الارتهان للنماذج والتكرار.

فالذكاء الاصطناعي يعتمد على ما كُتب سابقًا، ويعيد إنتاجه بصور مختلفة. فهو بارع في الجمع والتركيب، لكنه عاجز عن كسر القاعدة من داخل التجربة، بينما الإبداع الإنساني كثيرًا ما يولد من التمرّد والخروج عن المألوف.

ثانيًا: الرأي المؤيد

الأدب يُقاس بالأثر لا بالمصدرفي المقابل، يرى المتحمسون للتقنية، ومن يُطلق عليهم أحيانًا «أدباء الديجيتال»، أن الآلة قادرة على إنتاج أدب مؤثر، ويستندون في ذلك إلى عدة حجج.منها ما يرتبط بفكرة أو نظرية «موت المؤلف» لرولان بارت، والتي ترى أن النص يجب أن يُقرأ بمعزل عن نوايا صاحبه وسيرته. فالقارئ – بحسب هذا الطرح – لا يهمه من كتب النص، بل ما يتركه فيه من أثر. فإذا أثار النص الدهشة أو الشجن، فقد أدى وظيفته الأدبية، سواء أكان كاتبه إنسانًا أم آلة. ومع ذلك، يصعب التسليم بهذا الطرح بالكامل، إذ لا يمكن تخيّل نص بلا بصمة مؤلف حقيقي.ويرى آخرون أن الإبداع ذاته عملية تركيبية، فالعقل البشري يقرأ ويتأثر ويعيد الصياغة، والذكاء الاصطناعي يفعل الشيء نفسه لكن بسرعة ونطاق أوسع. غير أن هذا القياس يبقى ناقصًا، لأن الإنسان لا يقرأ ليحاكي فقط، بل ليبتكر ويتجاوز.كما يذهب بعضهم إلى أن الآلة قادرة على تجاوز الانحياز البشري، عبر الجمع بين أساليب وعصور ولغات مختلفة، لإنتاج نصوص هجينة قد تفتح آفاقًا جديدة للغة العربية. وهي فكرة لا يمكن الجزم بصحتها أو بطلانها إلا مع مرور الزمن.أين نقف اليوم؟ اليوم، لم يعد السؤال: هل تستطيع الآلة أن تكتب؟ فقد أثبتت أنها تستطيع.السؤال الحقيقي هو: كيف سنتعامل مع ما تكتبه؟هل سنعدّه إبداعًا حقيقيًا؟ أم مجرد نصوص متقنة بلا روح؟ وهل سنستغني عن القراءة والتجربة الإنسانية، أم سنجعل من الآلة أداة مساعدة لا أكثر؟لقد ظهرت بالفعل اتجاهات مثل «الأدب التشاركي» (Cyborg Literature)، حيث يتداخل دور الإنسان مع الآلة في إنتاج النص: يقدّم الإنسان الفكرة، وتنسج الآلة الصور، ثم يعود الإنسان للتنقيح والتوجيه، وكأن الآلة مرسمٌ، والشاعر ريشة.

وفي السياق نفسه، طُرحت إشكالات جديدة تتعلق بالملكية الفكرية: لمن يعود النص؟ للمبرمج؟ للشركة؟ أم أنه نص بلا مالك؟

مثال للتأمل طلبنا من أحد نماذج الذكاء الاصطناعي بيتًا شعريًا على نهج أبي العلاء المعري، فجاء الرد (بناءً على فلسفة أبي العلاء المعري التي تمتاز بالزهد الصارم، ونظرة “التشاؤم الواعي”، وتحليل طبيعة الوجود الإنساني، إليك هذا البيت الذي صيغ على نهجه):

نَسيرُ لِحَتفِنا وَالدَّهرُ يَبني

صُروحًا مِن عِظامِ الراحِلينا

بيت لا بأس به، لكنه يفتح السؤال من جديد:هل يكفي التشابه الشكلي والأسلوبي لنقول إن هذا شعرٌ حيّ؟

أسئلة للنقاش

لو قُدمت لك قصيدتان دون معرفة كاتبهما، وأعجبتك قصيدة الآلة أكثر، هل سيتغير حكمك بعد معرفة مصدرها؟ * هل الجمال صفة في النص ذاته، أم أنه مرتبط بهوية من كتبه؟

أخر المقالات

منكم وإليكم