العينُ تسمع والأذنُ ترى
د. عصام عسيري
في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، نادرًا ما نعثر على مشروع فكري استطاع أن يؤسس معرفة فنية عميقة ومتكاملة مثل المشروع الذي أنجزه الدكتور ثروت عكاشة في سلسلة كتبه عن تاريخ الفن. لم تكن هذه السلسلة مجرد سرد تاريخي أو تعريف بالأساليب والمدارس، بل كانت مشروعًا حضاريًا متكاملًا، نقل القارئ العربي من استهلاك الصورة إلى فهم الفن بوصفه ظاهرة إنسانية كبرى، تعكس تحولات الوعي، وتكشف علاقة الجمال بالفكر، والرمز بالعقيدة، والشكل بالمعنى.
لقد شكّلت هذه السلسلة أحد أهم المراجع المؤسسة للوعي البصري العربي، وأسهمت في سد فراغ معرفي طالما عانت منه المكتبة العربية، التي ظلت لعقود تعتمد على مراجع أجنبية مترجمة في تاريخ الفنون.
ثروت عكاشة: سيرة عقل موسوعي ورجل دولة ثقافي
وُلد الدكتور ثروت عكاشة في القاهرة عام 1921، وتلقى تعليمه في الكلية الحربية، قبل أن تتجه اهتماماته إلى الآداب والفنون والفكر الإنساني. تابع دراساته العليا في فرنسا، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، ما أتاح له الاطلاع المباشر على مناهج كتابة تاريخ الفن في أوروبا.
تقلّد عكاشة مناصب ثقافية محورية، أبرزها وزارة الثقافة والإرشاد القومي في مصر، وكان من أبرز المهندسين المؤسسين للبنية الثقافية الحديثة، إذ ارتبط اسمه بتأسيس مؤسسات كبرى تُعنى بالفنون والآداب والتراث. غير أن إنجازه الأهم لم يكن إداريًا بقدر ما كان معرفيًا، حيث آمن بأن الفن ركيزة أساسية في بناء الإنسان، لا ترفًا ثقافيًا.
رحل ثروت عكاشة عام 2012، بعد أن ترك وراءه إرثًا فكريًا موسوعيًا ما زال فاعلًا في الوعي الثقافي العربي.
سلسلة تاريخ الفن: الفن بوصفه ذاكرة الإنسانية
تمثل سلسلة تاريخ الفن، المعروفة بعنوانها الدال «العين تسمع والأذن ترى»، خلاصة مشروع فكري استغرق من مؤلفه عقودًا من البحث والتأمل والكتابة. وهي سلسلة متعددة المجلدات، تتبع تطور الفنون الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بالحضارات القديمة، وصولًا إلى الفنون الأوروبية الحديثة.
اعتمد ثروت عكاشة منهجًا تاريخيًا تحليليًا يربط العمل الفني بسياقه الحضاري والفلسفي والديني، رافضًا اختزال الفن في بعده الشكلي أو الزخرفي. في هذا المشروع، يتحول الفن إلى وثيقة حضارية، وإلى خطاب رمزي يعكس تصور الإنسان للعالم، والوجود، والمقدّس، والسلطة، والجمال.
أبرز أجزاء السلسلة:
تضم السلسلة عددًا كبيرًا من الكتب، من أبرزها:
موسوعة تاريخ الفن: العين تسمع والأذن ترى
العمل المركزي في المشروع، ويتناول تطور الفنون الإنسانية عبر العصور، مع تحليل معمق للعمارة، والنحت، والرسم، والزخرفة.
الفن المصري القديم
قراءة تحليلية تربط الشكل الفني بالمعتقد الديني وفكرة الخلود والبعث.
الفن العراقي القديم
دراسة لفنون حضارات وادي الرافدين، وتحليل للرمز والأسطورة والعمارة.
الإغريق بين الأسطورة والإبداع
كتاب يكشف الجذور الجمالية للفكر الغربي، ويربط بين الأسطورة والفلسفة والفن.
الفن الروماني
قراءة للفن بوصفه أداة تعبير عن السلطة والإمبراطورية.
الفن الإسلامي
من أهم ما كُتب عربيًا في هذا المجال، حيث يقدّم الفن الإسلامي بوصفه رؤية روحية وفلسفية قائمة على التجريد واللانهاية، ومنها كتب في الفن الفارسي والتركي.
عصر النهضة الأوروبية
تحليل للتحول الجذري في مفهوم الإنسان والفنان والجمال.
الباروك والروكوكو
دراسة للأساليب المرتبطة بالحركة والدراما والترف البصري.
الفن الهندي والفن الصيني
فتح للأفق الحضاري الآسيوي وربط الفنون بالفلسفات الشرقية. وتبقى يستمر مشروعه لدراسة الفن الأفريقي
الأهمية العلمية والثقافية للسلسلة؛
تكمن القيمة الكبرى لسلسلة ثروت عكاشة في أنها:
أرست أول مشروع عربي متكامل في تاريخ الفن العالمي
قدّمت الفن بوصفه معرفة إنسانية لا تقل شأنًا عن الفلسفة والأدب
أسهمت في تشكيل الذائقة البصرية الحديثة في العالم العربي
أصبحت مرجعًا أساسيًا في كليات الفنون والتربية الفنية والآثار
حررت القارئ العربي من التبعية الكاملة للمراجع الغربية
لقد نجح عكاشة في الجمع بين العمق العلمي واللغة الأدبية الراقية، فكتب تاريخ الفن بلغة مثقفة دون تعقيد نخبوي، وبعمق دون تسطيح.
ثروت عكاشة في سياق كتابة تاريخ الفن:
إذا كان الغرب يفاخر بأعمال موسوعية مثل قصة الفن لإرنست جومبريتش، فإن مشروع ثروت عكاشة يقف في السياق العربي مشروعًا موازياً ومتكافئًا، بل متقدمًا في شموليته الحضارية وارتباطه بأسئلة الهوية والإنسان والمعنى.
ختامًا: إن سلسلة كتب ثروت عكاشة في تاريخ الفن ليست مجرد مؤلفات أرشيفية، بل هي مشروع تنويري أسهم في إعادة الاعتبار للفن داخل الثقافة العربية بوصفه وعيًا ومعرفة وذاكرة إنسانية. وهي اليوم، في زمن الصورة السريعة، أكثر حاجة إلى إعادة القراءة، لا باعتبارها تاريخًا للفن فحسب، بل تاريخًا للإنسان مكتوبًا بلغة الجمال.


