كل الشكر لجريدة الصباح على اهتمامها الدائم بالشأن الثقافي والفني والشكر موصول للسيدة ابتهال بليبل على جهودها المخلصة وإسهاماتها المتميزة في إثراء الساحة الإعلامية.
(بصمات الضوء وظلال الذات قراءة في أعمال الفنانة نادية فليح)
(الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية )— بابلو بيكاسو
في هذه المقولة يختصر بيكاسو معنى الفن عبر قدرته على صقل الداخل الإنساني وتخفيف أثقال اليومي تلك الأثقال التي تترسّب طبقة بعد أخرى حتى يتعذر على الروح أن ترى نفسها بوضوح وكأن الفن هو الفعل الوحيد القادر على إزالة هذا الغبار وإعادة الإنسان إلى مركزه الأول حيث تتجلى ذاته بأبهى صورها ومن هنا يمكن أن نرى أعمال الفنانة نادية فليح كمساحة يمر عبرها الضوء إلى الداخل وكنافذة لا تكتفي بعرض شكل بصري بل تكشف حركة الذات في عالم مزدحم بالضجيج والاختناق
لوحات الفنانة نادية فليح ليست سطحاً لونياً وحسب بل فضاء وجودي يتشابك فيه المادي بالرمزي فتبدو البصمات وكأنها امتداد لصوت داخلي يبحث عن معناه في عالم متغيّر فالبصمة التي هي في حقيقتها تعريف الإنسان بهويته المادية تتحول هنا إلى رمز لوجوده الأعمق وكأنها الأثر الذي يظل شاخصاً رغم تغيّر كل شيء فهي ليست مجرد علامة بل حضور كامل واعتراف بأن الإنسان لا يمر في الحياة من دون أن يترك أثراً حتى لو حاول العالم محوه وفي هذا المعنى تتحول البصمة إلى نبرة وجودية تكشف هشاشة الذات وقوتها في آن واحد
الألوان في أعمال الفنانة نادية فليح لا تعمل على مستوى الجمال وحده بل تستحضر عمقاً نفسياً وروحياً شديد الحساسية إذ يتداخل الأزرق مع البني والأسود كأنما تمزج الفنانة بين طبقات الروح وطبقات الأرض وبين خفة الحلم وثقل الذاكرة فالأزرق الذي يرمز إلى السماء والعمق واللاوعي لا يأتي صافياً بل محمولاً على التجربة البشرية بكل ما فيها من اختلاط وتعب بينما يتدخل البني والأسود ليمنحا اللوحة ثقلاً يشبه ما تتركه الحياة من أثر فهذا المزج اللوني لا يهدف إلى بناء كتلة جمالية وإنما يرسم حالة أشبه ما تكون بخارطة انفعال داخلي تشكّلها الفنانة بوعي عال وحساسية مفرطة تجاه الظل بوصفه جزءاً من الحقيقة وليس نقيضاً لها
الخياطة التي تستخدمها الفنانة ليست تقنية للربط فحسب بل فعل مقاومة وشفاء فهي محاولة مستمرة لإعادة جمع الذات التي تمزقت تحت ضغط العيش والذاكرة إنها إعادة وصل ما انقطع بين الإنسان ونفسه وبين الماضي والحاضر وبين الألم والرغبة في النهوض من جديد الخيط الأبيض الذي يشق اللوحة يشبه خطوة أولى نحو ترميم العالم من حولنا وكأن الفنانة تقول عبر عملها إن التمزق ليس نهاية بل بداية لما يمكن أن يعاد ترتيبه بطريقة أجمل إن الخياطة هنا ليست فعلاً حرفياً بل إعلان ناعم لقوة داخلية لا تستسلم مهما توالت الكسور
الانقسام العمودي بين الضوء والظل الذي يظهر في كثير من أعمالها ليس شكلاً تجريدياً بل موقفاً فلسفياً من الوجود كأنه انعكاس لطبيعة الإنسان التي تحمل دائماً صراعاً بين النور والظلمة و بين ما نعلنه وما نكتمه بين ما نعيش وما نحلم به هذا الانقسام يمنح اللوحة بُعداً شبيهاً بمرايا النفس التي لا يمكن قراءتها من زاوية واحدة فكل نصف يحمل حقيقته الخاصة وكل لون يستمد معناه من مجاورة اللون الآخر وكأن العمل الفني يقول لنا إن الهوية ليست كتلة صلبة بل مسار دائم التغيّر وأن الإنسان ليس نسخة واحدة بل طبقات من التجارب والرغبات والآثار
توظيف البصمة إلى جانب الخياطة واللون يجعل من اللوحة نصاً مفتوحاً قابلاً لقراءات متعددة فهي ليست صورة متلقية للعين بل نظام رمزي يحرّض الذاكرة ويوقظ الأسئلة إنها تشبه مفكرة روحية تكتب فيها الفنانة ما لا يمكن قوله بالكلمات فلكل بصمة في اللوحة تاريخ ولكل خيط محاولة ولكل لون انفعال وكل ذلك يشكّل بنية جمالية لا تركن إلى المباشرة بل تستمد قيمتها من تعدد مستوياتها ومعانيها وهنا تكمن فرادة أعمال نادية فليح فهي تُبنى على البساطة البصرية لكنها تُحمل بكثافة روحية عالية تجعلها أعمالاً تنتمي إلى تجربة شعورية أكثر مما تنتمي إلى مجرد ممارسة تشكيلية
وبين كل هذه الطبقات تبقى الهوية محوراً مركزياً لكنها ليست الهوية بمعناها التقليدي الثابت بل بمعناها المتحول المتأرجح بين ما كنا وما أصبحنا عليه وما يمكن أن نكونه لذلك تبدو أعمال الفنانة وكأنها محاولة لتوثيق التحولات الداخلية للإنسان من خلال أثره الشخصي ومن خلال ما يتركه على قماش الحياة من ندوب وخطوط وانقطاعات فالفن هنا ينقل الإنسان من كونه شاهداً على نفسه إلى كونه فاعلاً يعيد تشكيل ذاته برؤيا جديدة
حين نعود إلى مقولة بيكاسو ندرك أن أعمال الفنانة نادية فليح تمارس هذا الفعل تماماً فهي تزيل الغبار لا عن الروح وحدها بل عن الذاكرة أيضاً عبر تقديم مساحة تأملية تجعل المتلقي يعيد التمعن في تفاصيل ذاته تلك التفاصيل التي تآكلت مع الوقت من كثرة العبور اليومي حين يقف المرء أمام لوحاتها يشعر كأنه يستعيد شيئاً من نفسه كأنه يفتح صندوقاً قديماً تركه في زاوية معتمة من الحياة ليكتشف أن ما بدا صغيراً كان في الحقيقة أكثر ما يستحق الالتفات
هذه الأعمال لا تقدم إجابات جاهزة بل تحرّض الأسئلة فهي دعوة للبحث عن المعنى داخل الإنسان لا خارجه دعوة لقراءة الوجود من خلال أثره وإعادة تعريف ما نظنه ثابتاً في حياتنا ولذلك فإن تجربة الفنانة نادية فليح ليست تجربة بصرية بل مبادرة فكرية وروحية تعيد للإنسان قدرته على الإصغاء إلى صوته الداخلي وسط عالم ضائع في الصخب
خاتمة هذه الأعمال تمنحنا فرصة نادرة للتأمل العميق حيث يصبح الفن امتداداً للذات لا مرآة لها فقط وتتحول الخطوط والخيوط والبصمات إلى لغة تحكي قصة الإنسان في بحثه الدائم عن توازن بين النور والظل وبين الحضور والغياب وبذلك تحقق اللوحة ما قصده بيكاسو حين جعل الفن فعلاً لتطهير الروح وإعادة بنائها ومن هنا يمكن القول إن الفنانة نادية فليح تقدم فناً لا يُشاهد بل يُعاش بكامله ويترك في المتلقي أثراً لا يمحوه الزمن
اميرة ناجي / فنانة تشكيلية


