مقال علمي : رقم (١) عن:
———–
( الزجاج… كيمياءُ النار وجمالُ النور في التراث والترميم ).
——————————
إعداد: فاروق شرف.
————-
الزجاج ليس مادة هشة فقط… بل نظامٌ كيميائي دقيق.
يتنفّس مع البيئة، ويتفاعل مع الزمن، ويحمل في طبقاته المجهرية ذاكرة الفرن والحرفي.
لذلك فإن الترميم الحقيقي له يبدأ بالفهم قبل اللمس.
وبالتحليل قبل التدخل، وبالتقوية المتوافقة قبل الاستكمال.
——————-
1) الجذور الأولى لصناعة الزجاج في الحضارات القديمة:
***********************
صناعة الزجاج تُعد أحد أعقد يفومترات التحول من المادة الخام إلى مادة شفافة متجانسة عبر التحكم الحراري والكيميائي. تشير الدلائل الأثرية إلى بواكير هذا الفن في بلاد الرافدين خلال الألف الثالث قبل الميلاد، حيث ظهرت خرزات زجاجية معتمة قبل اكتشاف تقنية الزجاج الشفاف لاحقًا. اعتمدت تلك الصناعة على خليط السيليكا مع رماد النباتات القلوية كمصدر مبكر لأكاسيد الصوديوم. ثم انتقلت التقنية إلى مناطق شرق المتوسط عبر طرق التجارة والتبادل الثقافي، لتبدأ مصر القديمة بعدها في تبني الصناعة ثم تطويرها حتى بلغت ذروة الإتقان والإشعاع الجمالي.
أقدم القطع الزجاجية المصرية كانت مزججة ومعتمة، ثم تطورت تدريجيًا نحو الشفافية مع إدخال مكونات أكثر نقاءً وتحكمًا حراريًا أكثر دقة في الأفران.
2) دور مصر في تسيد صناعة الزجاج بعد استيراد التقنية:
******************
بدأ مصر القديمة في تصنيع الزجاج فعليًا قرابة القرن 15 ق.م خلال الدولة الحديثة، بعد استيراد المعارف الأولية من شرق المتوسط، ليصبح المصري صانعًا لا تابعًا، ومطوّرًا لا ناقلًا فقط.
تميزت مصر بـ:
– نقاء الرمال البيضاء في مناطق مثل وادي النطرون.
– الاستخدام المبكر لـ النطرون كمصدر قلوي أساسي ثابت في العجينة الزجاجية.
– التحكم الحراري الطويل داخل الأفران ما سمح بالتجانس الكامل للعجينة.
– ازدهار الورش الملكية التي ارتبطت بصناعة أدوات الطقوس، والعطور، والأواني الزجاجية الملونة ذات الطابع الرمزي والديني.
وبحلول عصر تحتمس الثالث وأمنحتب الثالث، أصبحت صناعة الزجاج المصرية الأكثر انتشارًا وهيمنة في الشرق القديم، لا سيما في الأواني الفاخرة، والخَرَز، والتمائم.
3) التقنيات التاريخية للتشكيل والزخرفة بالألوان والمينا:
(أ) قديــمًا:
********
اعتمدت معظم المشغولات على تقنيات التشكيل دون النفخ المبكر، وأهمها:
1. تقنية التشكيل حول القلب Core-Forming:
يتم تشكيل قلب رملي أو طيني يُغطّى بالعجينة الزجاجية الساخنة، ثم تُسحب منه لاحقًا ليكوّن التجويف الداخلي. استخدمت هذه التقنية بشكل واسع في قوارير العطور.
2. التطعيم الزجاجي Glass Inlay:
إدخال زجاج ملون داخل تجاويف حجرية أو جبسية داخل العمارة أو الأثاث.
3. المينا Enamel والزخرفة الحرارية:
مزج مسحوق اللون مع وسيط زجاجي وصهره على سطح القطعة، خاصة بالألوان الزرقاء والخضراء والحمراء عبر أكاسيد النحاس والكوبالت والحديد.
(ب) حديثًا:
*********
– النفخ الحر Free Blowing والقالب Mold Blowing بعد القرن الأول الميلادي.
– الصهر المتدرّج داخل أفران الغاز والتحكم بدرجات Atmosphere الأكسدة والاختزال.
– إدخال تقنية المينا الحديثة Thermal Stable Enamels المستخدمة في الاستكمال بالعمارة التراثية.
– الصهر الإلكتروني Programmable Kilns في نطاق الطبخ اللوني وإعادة دمج الألوان مع العجينة
4) مظاهر التلف المجهرية والبيئية وتأثيرها على بنية الزجاج:
*********************
المشغولات الزجاجية في السياق المعماري والمتاحفي تتعرض لعوامل تلف مركّبة يمكن تقسيمها إلى:
(أ) بيئية Macro Damage
– التغيرات الحرارية المفاجئة Thermal Shock.
– الرطوبة العالية التي تؤدي إلى تحلل الشبكة الزجاجية Glass Network Hydrolysis.
– الأملاح الذائبة وتكوين طبقات بيضاء قلوية على السطح Alkaline Bloom.
– التلوث Atmosphere (أكاسيد الكبريت والنيتروجين) وتكوين قشور مجهرية حمضية.
– الأشعة UV وتأثيرها على بعض الألوان غير الثابتة، خاصة في الزجاج المعشق.
(ب) مجهرية Micro Damage
– تكوين طبقة الجِل Gel Layer نتيجة اختلاط الأيونات السطحية مع الرطوبة.
– فقد الصوديوم Potassium/Sodium depletion من السطح ويظهر تحت الميكروسكوب SEM كتآكل دقيق.
– Crizzling تشققات دقيقة ناتجة عن خلل نسب القلويات.
– ضعف تماسك المينا وظهور Pitting وMicro-Pores.
هذه المظاهر خطيرة لأنها لا تؤثر على الشكل فقط، بل على بنية الزجاج ككل.
5) منهجيات: التنظيف – الاستكمال – التقوية – والتثبيت الترميمي غير المخادع:
********************
(أ) التنظيف الميكانيكي
استخدام مشارط دقيقة (Scalpel Cleaning).
ألياف زجاجية دقيقة Glass Fiber Brushes.
Micro-Air Abrasion بحبوب غير قلوية (مثل أكسيد الألومنيوم الناعم عند الضرورة فقط وتحت ميكروسكوب رقابي).
(ب) التنظيف الكيميائي:
يستخدم بحذر شديد، فقط عند الضرر القلوي أو الدهني المثبت، مثل:
محاليل مخففة غير حمضية pH-Neutral Buffered Solutions.
مذيبات عضوية لطيفة مثل الإيثانول (دون إغراق وبتكنيك المسحة).
(ج) الاستكمال غير المخادع:
– استخدام عجائن زجاجية متوافقة معامل التمدد CoE Compatible Frit.
– الاستكمال يكون قابلًا للتمييز العلمي لكن غير مرئي تشويهيًا بصريًا، بما يتفق مع ميثاق الترميم الحديث.
(د) التقوية والتثبيت
– مواد مثل Paraloid B‑72 في التثبيت وإعادة اللصق.
– دعامات دقيقة شفافة داخلية عند الضرر البنيوي.
– التثبيت بالحقن المجهري لبعض الشروخ عبر راتنجات منخفضة اللزوجة (خاضعة للاختبار قبل التطبيق).
6) تقنيات تصنيع المشغولات الزجاجية قديما وحديثا:
****************************
قديــمًا :
*****
– صهر السيليكا مع القلويات النباتية في أفران وقودية Wood-Fired/Earth Kilns.
– استخدام قوالب حجرية لتكوين الأكواب والأواني.
– التلوين عبر أكاسيد المعادن الخام الطبيعية.
– التشكيل بالسحب واللف حول القلب وبتكنيك التسخين المتكرر فوق فوهات الفرن.
حديثًا :
******
Batch محسوب بنقاوات عالية Purified Silica + Soda-Ash + Limestone.
أفران غاز ثابتة الحرارة Controlled Kilns أو أفران كهربائية.
النفخ بالقالب، والتشكيل بالقوالب المعدنية الدقيقة.
التحكم الزمني والحراري الرقمي.
إضافات حديثة مثل البورات والسيليكات المحسوبة لتحسين المقاومة الكيميائية والحرارية.
7) طبخ الألوان مع العجينة وتطبيقه في الجص المعشق بالزجاج:
****************************
– تقنية “طبخ اللون مع العجينة” تعني أن اللون لا يُضاف كطبقة سطحية فقط بل يندمج داخل بنية الزجاج أثناء الانصهار نفسه، وهو ما يمنح:
– ثباتًا لونيًا طويل الأمد
– مقاومة أعلى للرطوبة والعوامل الكيميائية
– عمقًا بصريًا وتوهجًا ضوئيًا يناسب الرسالة الجمالية للعمارة الإسلامية.
استخدمت هذه المكونات فى:
– شبابيك الجص المعشق.
– القباب، والمشكاوات، والزجاج الملون المستخدم كمصدر إضاءة روحية داخل الفراغ المعماري.
يتم الطبخ قديما في أفران مفتوحة الحرارة لفترات طويلة، وحديثًا في أفران ذات برامج رقمية، لضبط تدرّج اللون وعمق الاندماج داخل الشبكة الزجاجية.
8) أهم المشغولات الزجاجية في المتاحف المصرية:
*************************
– المتحف المصري الكبير يضم أواني وخَرَز زجاجي من الدولة الحديثة وبعض القطع الطقسية.
– المتحف الإسلامي بالقاهرة يشتهر بزجاج المينا الإسلامي والمشكاوات المزخرفة التي تُعد أعظم نتاج تقني وزخرفي في عالم التراث.
9) أهم المشغولات الزجاجية في المتاحف الأوروبية و متحف اللوفر:
*************************
British Museum يضم زجاج مصري وروماني وإسلامي مبكر.
Victoria and Albert Museum يضم مجموعات ضخمة من الزجاج المعشق الإسلامي والمشكاوات.
متحف اللوفر يشتهر بزجاج المينا من العصور الإسلامية وقطع الشرق القديم.
10) بعض الآثار الزجاجية في المتاحف الأمريكية و الميتروبليتان:
Metropolitan Museum of Art يعرض زجاجًا مصريًا قديمًا، إسلاميًا بالمينا، وأشكال Core-Forming، وتمائم زرقاء وحمراء وخـرز ملكي.
11) مجالات استفادة المنشآت التاريخية من الزجاج:
**************************
فى العمارة الإسلامية والمباني التراثية يستفاد من:
– الزجاج المعشق في الجص والقباب.
– المشكاوات والأباليق الضوئية.
– الزجاج الملون المندمج داخل العجينة.
– الشرائح الزجاجية داخل المقرنصات الجصية.
وتتميز بالثبات الحراري والكيميائي، وسهولة الاستكمال الترميمي حين تُصنع Frit-Compatible.
12) خاتمة فنية علمية ترميمية :
*********************
يبقى الزجاج إرثًا مركّبًا بين الفن والعلم، دقيق التصنيع وهشّ الاستقرار إذا غاب عنه الضبط البيئي والصيانة الوقائية. وعند ترميمه يجب احترام أصالة مادته، ومعامل تمدده، وعمق لونه، وطبيعته البصرية دون تدخل خداعي يُربك الباحث والمشاهد.
ووفقًا لأخلاقيات الترميم الحديثة، فإن العلاجات يجب أن تكون:
– متوافقة فيزيائيًا مع CoE وخواص السطح
– قابلة للتمييز علميًا
– غير مخادعة بصريًا أو تاريخيًا
– غير مُتلفة للأصل
مستقرة ومستدامة قدر الإمكان
وهو ما يجعل الزجاج، بعد العلاج العلمي الرصين، عنصرًا خالدًا بين النور والتراث.
——————————————-
” إن بقاء الأثر الزجاحي …… مرهون بوعينا لا بصلابته “
فاروق شرف – مرمم آثار.
***&&&***&&&***&&&***&&&***
رحيل الكاتب المسرحي البريطاني توم ستوبارد
تخفض مسارح “وست إند” في لندن أضواءها لمدة دقيقتين
يوم الثلاثاء المُقبل، حِداداً على رحيل الكاتب المسرحي البريطاني توم ستوبارد الذي رحل مساء أمس السبت عن عمر ناهز 88 عاماً، بعد مسيرة فنية طويلة بدأت في ستينيات القرن العشرين. وُلد توم ستوبارد باسم توماش ستراوسلر في تشيكوسلوفاكيا عام 1937، وقبل أن يتمّ عامه الثاني هرب مع والديه من الغزو النازي عام 1939 إلى سنغافورة، لاحقاً استقرت عائلته في بريطانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في سن السابعة عشرة، بدأ حياته المهنية في مجال الصحافة، ثم اتجه إلى كتابة المسرحيات الإذاعية القصيرة، وفي لندن عمل مُراجعاً مسرحياً تحت اسم مستعار. شكّلت أعمال ستوبارد علامات فارقة في تاريخ المسرح العالمي المعاصر، خصوصاً بعد أن لفتت مسرحيته الشهيرة “موت روزنكرانتز وغيلدنسترن” الأنظار في مهرجان إدنبرة عام 1966، إذ تناولت قصة اثنين من خدم وليام شكسبير المجهولين بطريقة مبتكرة وجذابة.
خلال مسيرته، كتب ستوبارد أكثر من ثلاثين مسرحية، ويُعدّ واحداً من القلائل الذين أُدرج اسمهم في قاموس أوكسفورد الإنكليزي، إذ أُطلق مصطلح “ستوباردياني” لوصف أسلوبه الفني الفريد. تميّزت أعماله بدمج عناصر غير مألوفة ومفاجئة، مثل الجمع بين الفلسفة والحركة البهلوانية في مسرحيته “جامبرز” (1972)، واستكشاف حدائق القرن التاسع عشر ونظرية الفوضى في “أركاديا” (1993)، بالإضافة إلى المزج بين الموسيقى الصاخبة وأجواء الأكاديميين ارغم أن أعماله المبكّرة وُصفت بالعقلانية المفرطة، ما جعلها تفتقر إلى العُمق العاطفي الذي يشدّ الجمهور، إلّا أن هذا التوازن بدأ يتغيّر مع مسرحيته “الحقيقة الحقيقية”، التي قدّم فيها تأمّلاً أكثر حساسية في موضوعات الخيانة وعلاقة الفن بالحياة. ومع ذلك، ظل موقف ستوبارد السياسي منفصلاً إلى حد كبير، متجنباً الانخراط في التيارات اليسارية التي اتسم بها كثير من معاصريه، وهو ما دفع البعض إلى وصفه بـ”الليبرتاري الخجول”.
حصل على جوائز عدة أبرزها جائزة بينتر من منظمة PEN، وجائزة أوسكار عن سيناريو فيلم “شكسبير إن لوف” عام 1998، كما مُنح، في عام 1997، لقب فارس تقديراً لخدماته للأدب. وفي بيان صادر عن قصر باكنغهام، قال الملك تشارلز إنه والملكة كاميلا يشعران “بحزن عميق” لوفاة “أحد أعظم كُتّابنا”، مضيفاً “كان صديقاً عزيزاً عبّر عن عبقريته بعفوية، وكان قادراً، لا بل نجح في توجيه قلمه نحو أي موضوع”.لتشيكيين وقصائد الحبّ في “روك آند رول” (2006).
******
– العربي الجديد ــ لندن


