بقلم د.علي خليفة
الشخصية النمطية هي شخصية ذات ملامح ثابتة من أول المسرحية لنهايتها، وهي لا تتأثر بالحوادث التي تمر بها، وتبقى بصفاتها الجاهزة التي ظهرت بها من أول المسرحية لنهايتها، وعلى خلاف الشخصية النمطية نرى الشخصية النامية التي لا نتعرف على كل سماتها وأبعادها إلا بنهاية المسرحية التي تتواجد فيها، فهي شخصية تتأثر بالحوادث التي تمر بها، وتتطور وتنمو مع تطور أحداث المسرحية، واكتشافها لما كان يخفى عنها.
أما عن النمط الكوميدي فهو يمثل شخصًا متطرفًا في سلوك معين، كالبخيل والمتحذلق والفضولي وغير ذلك، وهذا النمط يقدم جاهزًا من بداية المسرحيات الكوميدية لنهايتها، وكلما برع كاتب المسرح الكوميدي في رسم أنماطه الكوميدية، ووضعها في مواقف مثيرة كلما كان هذا من أسباب نجاحه
في كتابة المسرحيات الكوميدية.
ولا يوجد كاتب كوميديا يمكن أن يستغني عن الأنماط الكوميدية
في مسرحه، بداية من أرسطوفان، ومرورًا بموليير، ووصولًا لبرنارد شو وغيره
من كبار كتاب المسرح الكوميدي في العصر الحديث، بل إننا نرى كتاب مسرح العبث لا يستغني بعضهم عن الأنماط الكوميدية في بعض مسرحياتهم، ومن ذلك توظيف يوجين يونسكو نمط المرأة الفضولية الثرثارة في مسرحية “الساكن الجديد”.
ولا شك أن بديع خيري هو من أهم كتاب المسرح الكوميدي في العصر الحديث في العالم العربي، وقد نَوَّعَ في وسائل الكوميديا التي كان يوظفها في مسرحياته، واهتم كثيرًا بوضع بعض الأنماط الكوميدية فيها.
وسنكتفي في هذا المقال بالحديث عن بعض الأنماط الكوميدية التي وظفها بديع خيري في بعض مسرحياته القصيرة التي نشرها في بعض المجلات في خمسينيات القرن الماضي، خاصة مجلة “الكواكب”، وجمعها الدكتور نبيل بهجت مع غيرها من المسرحيات القصيرة لأبي السعود الإبياري ويوسف وهبي في كتاب “المسرحيات القصيرة في المسرح المصري دراسة ونصوص”.
أولاً: نمط الشخص الفضولي
الشخص الفضولي هو شخص يهتم بمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن كل الأشخاص الذين يتصل بهم، وكثيرًا ما يحاول الوصول لأخبارهم، وأيضًا كثيرًا ما يدس أنفه في أمورهم دون أن يسمحوا له بذلك، وربما كان ألفريد فرج هو أبرع كاتب مسرح عربي صور هذا النمط في الفصل الأول من مسرحية “حلاق بغداد” من خلال شخصية أبي الفضول.
وقد صور بديع خيري الشخص الفضولي في مسرحية “أصابع القرد”، والشخص الفضولي في هذه المسرحية اسمه عباس، ونراه يهتم بمعرفة كل ما يخص زميله فريد في الشركة التي يعملان بها، فنراه يفتح خطابًا موجودًا على مكتبه، ويعرف أنه من حبيبته سنية، وكانت قد ذكرت له في هذا الخطاب أنها ترغب في رؤيته، وحددت له مكان اللقاء وموعده، وأخذ عباس الخطاب، وأخفاه عن فريد، وذهب ليقابل سنية في ذلك الموعد، وكان أخوها قد علم بعلاقتها بفريد، وعلم بذلك اللقاء وموعده، فمنع أخته من الذهاب إليه، وذهب هُو والتقى بعباس، وظنه هو الذي تواعده أخته، فضربه ضربًا شديدًا، وكان هذا الضرب جزاء له على فضوله الشديد.
وأعتقد لو أن بديع خيري قد وضع عباس الفضولي في عدة مواقف في هذه المسرحية لزادت الكوميديا بها، ولكنه لم يظهره بشخصه إلا في نهاية هذه المسرحية، وكان الحديث عنه يتم قبل ذلك الموقف على لسان فريد.
ثانيًا: نمط الشخص المجنون
الشخص المجنون من الأنماط الكوميدية الطريفة جدًّا، فهو يخلط
في كلامه، ويقول أشياء لا رابط بينها، وقد رأينا بديع خيري قد وَظَّفَ هذا النمط الكوميدي في مسرحية “العاقل”، وأظهر في هذه المسرحية شخصًا أُصيب بالجنون في الماضي بسبب أنه رأى زوجته كاشفة وجهها في المشربية، ومكث في مستشفى المجانين خمسًا وثلاثين سنة، وحينما عاد له عقله خرج للحياة بصحبة ابنه، فأعجبه ما رَآه في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي في مصر من مظاهر تمدن، ولكنه تعجب حين رأى حفيدته مديحة تلبس البنطال، وتتحدث مع شاب في التليفون؛ لتعتذر له عن عدم ذهابها لحفلة رقص لترقص فيها معه، وحين أخبر ابن هذا الشخص أباه عن التطور الذي حدث للمرأة في ذلك العصر لم يرضَ عنه، وفَضَّل أن يعود لمستشفى المجانين بإرادته؛ لأنه لا يستطيع أن يتكيف مع هذه المتغيرات التي حدثت في المجتمع، خاصة فيما صار عليه في تطور علاقة الرجل بالمرأة والحريات التي صارت متاحة للمرأة.
ولا شك أن المجتمع المصري لم يكن كله بهذه الصورة في تلك الفترة التي كتب فيها بديع خيري هذه المسرحية، بل كان ذلك في بعض الأوساط الراقية منه، أما باقي المجتمع المصري آنذاك، فقد كانت المحافظة تغلب عليه، ولكن المؤلف بالغ في تصوير صورة المرأة وتحررها بهذا الشكل من أجل رسم المواقف الكوميدية بها، وحتى تحدث الصدمة للجد، فيقرر مختارًا أن يعود بنفسه لمستشفى المجانين؛ لرفضه هذا المجتمع الذي لا يتوافق مع القيم والعادات التي تربى عليها.
ثالثًا: الشخص اللاهي المستهتر
وصور بديع خيري الشخص اللاهي المستهتر في مسرحية “ملاك من جهنم”، وفيها نرى شابًّا لاهيًا مستهترًا اسمه عفت، ولا يعنيه في حياته غير السهر والعربدة، وتمتلئ الحجرة التي يعيش فيها بزجاجات الخمور، وبصور الفتيات الخليعات.
ويأتي رفعت لصاحبه عفت في حجرته هذه؛ ليطلب إليه أن يعطيه أدوات الشيطان التي عنده؛ ليستقبل بها عمه الذي كان لاهيًا قبل سفره لأمريكا، ويضع عنده كتبه؛ لعل عمه حين يرى فيه صورة منه يعجب به.
ويكلم رفعت عمه عن صاحبه عفت، فيرغب في زيارته، ويرى العم عفت في تلك الحجرة والكتب حوله وهو ممسك بكتاب فيعجب به، ويعطيه مبلغًا كبيرًا من المال؛ لينفقه على رفعت الذي لا يثق فيه لاستهتاره الذي يذكره بشبابه قبل أن ينصلح حاله حين سافر لأمريكا، ويحاول رفعت أن يوضح لعمه الحقيقة، ويقول له: إن الحقيقة عكس ما رآه فيه وفي صاحبه عفت، ولكن عمه لا يقتنع بكلامه،
ويسر كثيرًا عفت اللاهي بذلك، في حين يتضايق رفعت كثيرًا لهذا الموقف وما انتهى إليه.
رابعًا: الشخص المتحذلق
الشخص المتحذلق هو شخص حريص على استخدام اللغة العربية ومفرداتها الغريبة حتى وهو يتعامل مع عامة الناس في الأسواق وفي أي مكان آخر، ولا شك أننا نضحك من هذا النمط الذي يسير بشكل آلي، ولا يُقَدِّرُ المقام الذي يتحدث فيه، ونرى في النوادر العربية القديمة تصويرًا رائعًا لهذا النمط الكوميدي.
وقد سبق أن عرض بديع خيري ونجيب الريحاني هذا النمط في مسرحية “ياسمين” التي استوحياها من قصة “أبي الحسن المغفل” من كتاب “ألف ليلة وليلة”.
وذكر الدكتور نبيل بهجت في كتاب “المسرحيات القصيرة في المسرح المصري دراسة ونصوص” أن بديع خيري ونجيب الريحاني قد عرضا في إحدى المسرحيات جماعة من العامة تتكلم في موقف باللغة العربية الفصحى، وأعادت هذا الموقف ذاته باللهجة العامية، وكان موقفًا طريفًا جدًّا.
ونرى بديع خيري قد وظف نمط المتحذلق في مسرحية “حارة سيبويه”، وفي هذه المسرحية لا نرى شخصًا واحدًا حريصًا على أن يتكلم باللغة العربية
في العصر الحديث في الأسواق وفي مواقف الحياة المختلفة، بل نرى كل من
في هذه المسرحية يفعلون ذلك.
ويحدث في هذه المسرحية خلاف بين امرأتين، ويصل الأمر بينهما للردح باللغة العربية الفصحى، ويتدخل مدرس لغة عربية ليفصل بينهما، ونراه يمزج
في حديثه لهما بين الألفاظ الفصيحة وبعض المفردات الأجنبية؛ مما يزيد الأمر طرافة، وكان أكثر شيء أغضب هذا الشخص المتحذلق أن هاتين المرأتين تستخدمان أحيانًا خلال خلافهما وردحهما – إحداهما للأخرى – ألفاظًا غير فصيحة، أو أن تقوم أي واحدة منهما برفع المنصوب ونصب المرفوع.


