الأبجدية التي قدّمتها أوغاريت إلى الإنسانية جمعاء حروف قليلة لكنها فتحت أبواب الذاكرة البشرية على مصراعيها.في راس شمرا.بالاذقية- مشاركة: د.غسان القيم.

منذ عام 1929 حين لامست معاول التنقيب الأولى تراب رأس الشمرة بدأت أوغاريت تُزيح عن وجهها غبار القرون لا لتكشف أطلالًا صامتة بل لتبوح بسيرة مملكةٍ كانت في قلب الألف الثاني قبل الميلاد نبضًا حيًا من حضارة وفكر وجمال.
ومع كل موسم حفر كانت الأرض تهمس بأسرارها: هنا مدينة لم تعبر التاريخ عابرة بل تركت فيه أثرًا لا يُمحى. وكانت أبجديتها، بلا جدال أعظم هدية قدّمتها أوغاريت إلى الإنسانية جمعاء حروف قليلة لكنها فتحت أبواب الذاكرة البشرية على مصراعيها.
وفي عمارة هذه المملكة تجلّت العظمة بأوضح صورها. فقد كشفت المكتشفات الأثرية عن ثلاثة قصور ملكية غير أن القصر الملكي الكبير ظلّ سيّدها جميعًا وأعجوبة زمانه التي اختصرت معنى السلطة والرقي معًا.
قصرٌ لا يدلّ اتساعه فحسب على قوة الحكم بل يكشف عن نظام إداري متطور واقتصاد غني وذائقة جمالية جعلت من أوغاريت إحدى أهم ممالك حوض البحر الأبيض المتوسط بل سِمةً فريدة من سمات المشرق السوري القديم.
اكتُشف هذا القصر عام 1939م في الطرف الشمالي الغربي من المدينة، وسُمّي “القصر الكبير” لسببٍ وجيه: مساحة تتجاوز عشرة آلاف متر مربع، بنيت كلها بالحجر، واحتضنت نحو تسعين غرفة تلتف حول خمس باحات مكشوفة تتوسطها حديقة. وإلى جانبها أربع باحات أصغر مسقوفة تحميها منشآت دفاعية متقنة تشي بأن الجمال هنا كان مقرونًا بالحذر والحكمة.
لكن شهرة القصر لم تأتِ من حجمه وحده بل من صداه الذي بلغ الملوك والفرعون.
ففي رقيمٍ طيني نادر يعود إلى نحو 1360 ق.م، كتب “ريب حدّد” ملك بيبلوس إلى فرعون مصر أمنحوتب الثالث مشيرًا إلى عظمة قصور المشرق قائلاً:
«انظر إلى قصر صور.
ليس هناك قصر حاكم مثله.
إنه كقصر أوغاريت،
الثروة المتواجدة فيه عظيمة بلا حدود”.
تشبيهٌ واحد كان كافيًا ليجعل من قصر أوغاريت مقياسًا للفخامة في ذلك الزمن.
ثم جاء الحريق.
حين احترق قصر أوغاريت لم يكن الحدث محليًا، بل مأساة هزّت الممالك المجاورة. أرسل أبيملكِي ملك صور رسالة موجعة إلى فرعون مصر أمنحوتب الرابع (أخناتون) جاء فيها:
“لقد دُمّرت أوغاريت مدينة الملك.
لقد دمرت النار قصر أوغاريت.
نصف المدينة ابتلعته النار.
والنصف الآخر لم يبقَ له أثر”.
كلماتٌ ثقيلة لا تصف خراب حجرٍ فحسب بل احتراق ذاكرة مدينة.
واليوم بعد قرون طويلة جاءت أعمال التنقيب الأثري لتؤكد صدق هذه الشهادة حيث بدا أثر النار واضحًا في طبقات الدمار وكأن الرسالة كُتبت بالأمس.
ومع ذلك لم تكن أوغاريت مملكة حرب ولا مدينة سيوف.
كانت مدينة محبة وتعايش تقاطعت فيها الأديان وتعانقت الأعراق وسكنها الإيمان بأن الخصب والسلام وجهان لحياة واحدة. ولهذا بقي اسمها حيًا لا في النصوص وحدها بل في الذاكرة الشعبية في فلاحٍ يزرع أرضه ينتظر المطر ويقول بثقة:
“هذه أرض بعل”.
هكذا تعيش أوغاريت.
مدينة لا تموت كلما ظننا أننا عرفناها. فاجأتنا بروعة جديدة وكلما توغلنا في أخبارها ازددنا دهشةً أمام حضارةٍ سبقت عصرها وكتبت اسمها بحروف لا تزال تنبض حتى اليوم..

عاشق أوغاريت..غسّان القيّم.
𐎂𐎎𐎐 𐎍𐎖𐎊𐎎

الصورة المرفقة بعدستي منظر عام للقصر الملكي في اوغاريت

أخر المقالات

منكم وإليكم