هل وُلد الفينيقيون من رماد أوغاريت؟
لغز حضارة لم تختفِ.
احترقت أوغاريت.. لكن النار لم تأكل ذاكرتها..
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد. كانت أوغاريت تقف على شاطئ المتوسط كمدينةٍ كونية مبكرة: مرافئها تعجّ بسفن قبرص ومخازنها تمتلئ بالحبوب ومعابدها تتردد فيها أسماء بعل وإيل وعناة ثم فجأةً صمتت الألواح وانطفأت النيران في الأفران وسقطت المدينة في ليلٍ طويل.
عام نحو 1200 ق.م، دُمّرت أوغاريت تدميراً كاملاً ولم تُبنَ بعدها مدينة فوق أنقاضها. لا طبقات استيطان لاحقة ولا عودة منظمة للسكان. وهنا يبدأ السؤال الذي حيّر المؤرخين وعلماء الآثار:
إذا لم يعد أهل أوغاريت ..فأين ذهبوا؟
علم الآثار لا يعرف فراغاً بشرياً مطلقاً. المدن قد تُمحى لكن البشر نادراً ما يتبخرون.
تشير الأدلة المادية إلى أن سقوط أوغاريت جاء ضمن ما يُعرف بـ انهيار العصر البرونزي المتأخر حيث تهاوت ممالك كبرى بفعل مزيج من:
اضطرابات سياسية.
انقطاع شبكات التجارة.
تحركات شعوب البحر.
وأزمات بيئية محتملة.
في هذا المشهد الفوضوي يبدو أن سكان أوغاريت لم يُبادوا بل تشتتوا.
اللغة.. ذاكرة لا تحترق
أقوى خيط يصل أوغاريت بالفينيقيين هو اللغة.
اللغة الأوغاريتية رغم كتابتها بنظام مسماري فريد تنتمي بوضوح إلى اللغات السامية الشمالية الغربية وهي نفس العائلة التي تنتمي إليها الفينيقية والعبرية والآرامية.
التقارب في الجذور والبنية النحوية. والمصطلحات الدينية لا يمكن تفسيره على أنه مجرد مصادفة جغرافية.
الأهم من ذلك:
إن الانتقال من كتابة أوغاريت المسمارية الأبجدية إلى الأبجدية الفينيقية الخطية لا يبدو قفزة حضارية مفاجئة.. بل تطوراً مبسطاً لذات الفكرة:
حرفٌ واحد = صوتٌ واحد.
وكأن الفكرة الأوغاريتية وجدت في المدن الساحلية الجنوبية (جبيل. صيدا. صور) شكلاً أكثر قابلية للحياة والاستمرار.
حين نقرأ نصوص أوغاريت الدينية نشعر بقرابةٍ مألوفة مع العالم الفينيقي اللاحق:
إيل: الإله الأعلى، الأب الحكيم.
بعل: سيد العاصفة والخصب.
عناة: الإلهة المحاربة.
هذه الأسماء وهذه الوظائف الإلهية لم تختفِ مع سقوط أوغاريت بل استمرت في مدن الساحل الفينيقي أحياناً بالاسم ذاته وأحياناً بملامح معدلة.
الدين مثل اللغة لا يُورَّث بالحجارة بل بالذاكرة الجماعية.
الفارق الجوهري بين أوغاريت والفينيقيين لا يكمن في الهوية بل في نموذج العيش.
أوغاريت كانت دولة-مدينة مركزية.
أما الفينيقيون فكانوا شبكة مدن مستقلة أكثر مرونة أقل اعتماداً على القصور وأكثر التصاقاً بالبحر.
قد يكون هذا التحول هو درس النجاة الذي تعلمه الناجون:
لا تبنِ حضارتك في مدينة واحدة بل انشرها على طول الساحل.
ماذا يقول العلم؟ وماذا لا يقول؟..
العلم لا يقول:
إن الفينيقيين هم الأوغاريتيون أنفسهم بشكل مباشر.
أو إن هناك هجرة موثقة بنص واحد قاطع.
لكن العلم يقول بوضوح:
إن هناك استمرارية لغوية وثقافية ودينية.
وإن الفينيقيين لم يظهروا فجأة من العدم بعد 1200 ق.م.
وإن أوغاريت تمثل حلقة مفقودة لفهم تشكل الهوية الساحلية الفينيقية.
الخلاصة: لم تولد الحضارة من الرماد بل انتقلت.
لم يولد الفينيقيون من رماد أوغاريت كمعجزة أسطورية.
بل خرجوا من ذاكرتها الحية.
أوغاريت لم تمت…
لقد تخلّت عن اسمها وغيرت شكلها وسكنت البحر.
والألغاز كما قلت لا تموت.
إنها فقط تغيّر موضعها في التاريخ..
سرد تاريخي
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..
المراجع العلمية
“”””””””””””””””””””
Marguerite Yon
Ugarit at Ras Shamra, Eisenbrauns, 2006.
Mark S. Smith
The Ugaritic Baal Cycle, Brill, 1994.
Glenn E. Markoe
Phoenicians, University of California Press, 2000.
Pierre Bordreuil & Dennis Pardee,
A Manual of Ugaritic, Eisenbrauns, 2009.
Mario Liverani,
International Relations in the Ancient Near East, Palgrave, 2001..
فيما يلي الترجمة العربية لعناوين المراجع :
مارغريت يون (Marguerite Yon)
أوغاريت في رأس شمرا
دار أيزنبرونز (Eisenbrauns)، 2006.
مارك س. سميث (Mark S. Smith)
دورة بعل الأوغاريتية
دار بريل (Brill)، 1994.
غلين إي. ماركو (Glenn E. Markoe)
الفينيقيون
مطبعة جامعة كاليفورنيا (University of California Press)، 2000.
بيير بوردروييل (Pierre Bordreuil) و دينيس باردي (Dennis Pardee)
دليل اللغة الأوغاريتية
دار أيزنبرونز (Eisenbrauns)، 2009.
ماريو ليفيراني (Mario Liverani)
العلاقات الدولية في الشرق الأدنى القديم
دار بالغريف ماكميلان (Palgrave Macmillan)، 2001.
ـ الصورة المرفقة بعدستي بوابة القصر الملكي الحصن المحصن
.


