في وقتٍ ارتبطت فيه الكيمياء بالكثير من الأساطير والخرافات،
جاء جابر بن حيان ليسطّر اسمه كأحد أهم العلماء على مرّ العصور، وأول من استخدم الكيمياء عملياً في التاريخ.
أبي الكمياء:
يطلق المؤرخون والعلماء على جابر بن حيان لقب “أبي الكيمياء“؛
فقد كان أول من قام بالتجارب العلمية للتأكد والتحقق من النظريات الكيميائية،
التي كانت متداولة في الكتب القديمة، والتي كان الكثير منها عبارة عن دجلٍ وشعوذة.
عمل ابن حيان على تأكيد حقيقتها أو تكذيبها،
كما اكتشف الكثير من المواد والعناصر الكيميائية المُستعملة في عصرنا الحديث.
فكان أول من اكتشف حمض الكبريتيك، وحمض النيتريك، والأكوا ريجيا، كما كان أول من فصل الزرنيخ والأنتيمون عن الكبريتيدات.
إلى جانب كلّ ذلك، ينظر إليه بعض العلماء على أنه الممهّد الأول لاختراع القنبلة الذرية. ولعلّ هذا ما جعل اسمه خالداً في التاريخ.
من هو “أبو الكيمياء” جابر بن حيان؟
اسمه الكامل أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي.
اختلفت الروايات حول تاريخ ومكان ولادته،
ولكن أكثرها تداولاً تشير إلى أنه وُلد عام 721 في الكوفة العراقية.
وهناك مصادر تقول إنه قد يكون وُلد في حران ببلاد ما بين النهرين (تركيا حالياً)، أو في خراسان (إيران حالياً).
نما بداخله حبّ الطب والصيدلة من والده، حيان بن عبد الله الأزدي،
الذي كان يعمل عطاراً صيدلانياً. ووفقاً لموقع إسلام أون لاين،
فإنّ أصل جابر بن حيان من اليمن، وقد هاجر والده إلى الكوفة في أواخر عصر الخلافة الأموية.
وتقول المعلومات إنه، عندما ظهرت دعوة العباسيين،
ساندهم حيان الوالد؛ فأرسلوه إلى خراسان للمساهمة في نشر دعوتهم، وهناك وُلد جابر بن حيان.
ولكن عندما شعر الأمويون بخطر نشاط حيان بن عبد الله الأزدي في بلاد فارس، ألقوا القبض عليه وقتلوه.
فاضطرت عائلة حيان أن تعود إلى قبيلة “الأزد” في اليمن،
حيث ترعرع جابر بن حيان، وتعلم اللغة اليمنية القديمة على يد أستاذه حربي الحميري،
الذي درّسه أيضاً العلوم الكيميائية والمعادن والرياضيات.
لاحقاً، عندما أطاح العباسيون ببني أمية وسيطروا على الكوفة عام 132هـ،
عادت عائلة ابن حيان إلى الكوفة، فانضمّ جابر إلى حلقات الإمام جعفر الصادق الذي تعلم عنده:
العلوم الشرعية، واللغوية، والرياضيات، إضافةً إلى الفيزياء، والفلك، والطب، والكيمياء.
خلال تلك الفترة، تزوج ابن حيان من فتاةٍ تُدعى “ذهب”، وأنجبا ثلاثة أبناء، هم: موسى، وعبد الله، وإسماعيل.
تعمّق جابر بن حيان في دراسة علوم الكيمياء،
من خلال مؤلفات ومصنفات خالد بن يزيد بن معاوية،
حتى نبغ في هذا المجال ووضع أسس الكيمياء الحديثة من دون أي مبالغة.
فأُطلق عليه لقب “أبي الكيمياء”.
عاش فترة طويلة من حياته في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، أثناء حكم هارون الرشيد؛
ويُقال إنّه اضطرّ إلى إفشاء البعض من أسرار تجاربه الكيميائية إلى الخليفة، ووزيره يحيى البرمكي،
وابنيه الفضيل وجعفر، ما زاد في ثرواتهم المالية.
عندما كبر في العمر:
في شيخوخته، عاد ابن حيان للعيش بمدينة الكوفة عام 803،
عقب “نكبة البرامكة” التي فتك خلالها هارون الرشيد بكل آل برمك ومن والاهم وآواهم،
بسبب دسائس ومكائد أوقعت بين الخليفة ووزرائه البرامكة.
هرب جابر بن حيان إلى الكوفة خوفاً من “بطش” الخليفة هارون الرشيد،
بحكم العلاقة الوطيدة التي كانت تربطه بآل برمك الفارسيين.
وظلّ العالم الكيميائي الكبير مُرتحلاً بين مدينتي الكوفة وطوس، إلى أن وافته المنية بالمدينة العراقية عن عمر يناهز 95 سنة، وقد مشى في جنازته جمعٌ كبير من العامة والعلماء.
يُقال إنّ الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد قد زار ابن حيان في مدينة طوس،
لما كان يبلغ من العمر 93 سنة. وبحسب موقع “أبحاث نت“، فإنّ جابر قال للخليفة وتلميذه عز الدين خلال تلك الزيارة:
“خذوا الكتب التي عندي، فلا يهمّني أمرها الآن”.
فردّ المأمون: “خذها يا عز الدين وضعها في مكتبة بيت الحكمة في بغداد”، ث
م قبَّلا جبين ابن حيان وغادرا البيت.
اكتشافات كيميائية هائلة وتمهيد لاختراع القنبلة الذرية:
كان جابر بن حيان مُلمّاً بمختلف العلوم الدينية والدنيوية، ولكنه أحب الكيمياء التي استهوته من خلال النظريات التي اطلع عليها في الكتب المختصة،
قبل أن يسعى لتطبيق تلك النظريات -عبر تجارب علمية- للتأكد من صحتها.
فكان أول من استعمل المنهج التجريبي، القائم على البحث والاستقراء والتجربة، كما تبناها البحث العلمي الحديث.
وقد كان يقول لتلامذته إن “دراسة العلوم الطبيعية أساسها التجربة، وأول واجب أن تعمل وتجري التجارب،
لأنّ من لا يعمل ويُجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان. بالتجربة كمال العلم”.
ووفقاً لموقع “مفكرون“، فقد كان جابر بن حيان وراء الكثير من الاكتشافات في مجال الكيمياء.
فكان أول من استخرج حمض الكبريتيك وأسماه زيت الزاج، وأول من استحضر ماء الذهب عبر تطوير الأكوا ريجيا لإذابة الذهب.
كما كان أول من اكتشف الصودا الكاوية، والعديد من المركبات الأخرى، مثل كربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم.
بالإضافة إلى ذلك، كان ابن حيان أول من وصف أعمال التقطير (وبرع فيها كثيراً)، والتبلور، والتذويب، والتحويل، والتكلس، والتسامي، والتبخر، وتخليص الأحماض،
مثل: أحماض الهيدروكلوريك، والخل، والسيتريك، والطرطريك.
وحضّر ابن حيان أيضاً معادن مختلفة، كما طوّر الصلب ودباغة الجلود وصبغ القماش المقاوم للماء،
إضافة إلى صناعة الزجاج باستخدام ثاني أكسيد المنغنيز، وتحديد الدهانات والشحوم.
وبحسب موقع “أنفاس” الثقافي، فإن لجابر بن حيان الفضل في استعمال الميزان،
والتدقيق في موازين المواد الكيميائية المستعملة، ودرس ظاهرة الاحتراق من زاوية كيمائية وربطها بالكبريت والكلس.
كما ميّز المواد القابلة للاحتراق عن غيرها، وصنع الحبر والطلاء والورق التي تساعد على كتابة المخطوطات والرسائل وتحفظها من البلل،
وحاول إيجاد الوسائل التي تمنع الحديد من الصدأ، إضافةً إلى أنه حضّر الفولاذ وكربونات الرصاص وحمض الأزوتيك.
قد يبدو الأمر غريباً، ولكن، وفقاً لما أشارت إليه الكثير من المواقع المتخصصة،
فإن جابر بن حيان مهّد لاختراع القنبلة الذرية. فقد كان أول من أشار إلى قوة الربط الذرية التي بُنيت على أساسها عملية تفجير طاقة الذرة.
وقد قال في هذا الشأن:
“في قلب كل ذرة قوة لو أمكن تحريرها لأحرقت بغداد”،
كما قال: “إنّ أصغر جزء من المادة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ (الذرة)،
يحتوي على طاقة كثيفة. وليس من الصحيح أنه لا يتجزأ مثلما ادعى علماء اليونان القدامى، بل يمكن أن يتجزأ.
والطاقة التي تنطلق من عملية التجزُّؤ هذه، يمكن أن تقلب مدينة بغداد عاليها سافلها. وهذه علامة من علامات قدرة الله تعالى”.
علماء الغرب اعترفوا بإنجازاته . ومؤلفاته تُرجمت إلى اللاتينية .
ألف جابر بن حيان الكثير من الكتب والرسائل في مختلف العلوم، أشهرها تلك المتخصصة في الكيمياء،
على غرار كتاب “السموم ودفع مضارها”، الذي يتحدث فيه عن أنواع السموم وتأثيرها على الإنسان والحيوان.
فعرض من خلاله أبرز علامات التسمم:
وقدّم حلولاً لها، كما أوضح انقسامها إلى :
سموم حيوانية (أفعى، عقرب)، وسموم نباتية (أفيون، حنظل)، وأخرى حجرية (زئبق، زاج، زرنيخ).
وله أيضاً كتاب “الموازين”:
الذي يضم 144 رسالة، تُعرف من خلالها الأسس الفلسفية والنظرية لعلم الكيمياء، وبعض العلوم العامة.
وكتاب “الخمسمائة” الذي يحتوي على 500 رسالة، تعالج مجموعة من المسائل الواردة في كتاب “الموازين”.
في كتاب “الرحمة”، يتناول ابن حيان القدرة على تحويل المعادن إلى الذهب.
أما كتاب “المائة واثني عشر”، فيحتوي على رسائل في صناعة الكيمياء، إلى جانب عرض مجموعة من إرشادات كيميائيين قدماء.
يطرح في كتاب “الحديد” طريقة استخراج الحديد من شكله وأصله الأولي، ويتضمن كتاب “السبعين” عرضاً منظماً لكافة الجهود الكيميائية.
تُرجمت العديد من مؤلفات جابر بن حيان إلى لغاتٍ أخرى، خصوصاً اللاتينية، وقد ذُيّلَت باسم Geber.
المصطلحات الكيميائية التي أوجدها:
وما زالت المصطلحات الكيميائية التي أوجدها واستخدمها في كتاباته تُستخدم حتى اليوم، على غرار الأمبيق (Alembic)، والغول (Alcohol)، والإكسير (Elixir)، والعنبر (Amber)، والصودا (Soda)، وغيرها.
وقد اعترفت العديد من المراجع الغربية وعلماء الغرب بدور جابر بن حيان في الحضارة الأوروبية. فقد قال عنه المستشرق الألماني ماكس مايرهوف:
“يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة. وأكبر دليل على ذلك أنّ كثيراً من المصطلحات التي ابتكرها، ما زالت مستعملة في مختلف اللغات الأوروبية”.
ويقول المؤرخ العلمي الأمريكي، ذي الأصول البلجيكية، جورج سارتون: “لن نتمكن من معرفة القيمة الحقيقية لجابر بن حيان، إلا إذا تم تحقيق وتحرير ونشر جميع مؤلفاته”.
أما عالم الفيزياء الفرنسي، مارسيلان بيرتيلو، فقد قال:
“إنّ لجابر في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق، وكانت كتبه في القرن الرابع عشر من أهم مصادر الدراسات الكيميائية، وأكثرها أثراً في قيادة الفكر العلمي في الشرق والغرب”.
فيما قال الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس باكون: “إنّ جابر بن حيان هو أول من علّم علم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء”.
وتحدث العديد من المؤرخين والعلماء المسلمين عن جابر بن حيان، على غرار ابن خلدون الذي ذكره في كتابه الشهير: “المقدمة” حين تطرق إلى علم الكيمياء،
وقال: “إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصّونها به،
فيسمّونها (علم جابر)، وله فيها سبعون رسالة”.
ومن جهته كتب عنه أبو بكر الرازي، في مؤلفه “سر الأسرار”، إن “جابراً من أعلام العرب العباقرة، وأوَّل رائدٍ للكيمياء”.