حلب… المدينة التي نُهبت باسم الوطن!..
أكبر خطأ في تاريخنا الحديث لم يكن سقوط الخلافة وحدها، بل ما تلا السقوط من انحدار المفهوم من أمةٍ واحدة إلى جغرافيا مبتورة.
فقد كانت حلب منذ قرون قلبا نابضا في جسد الخلافة الإسلامية، ثم أُريد لها أن تُختزل في حدود ضيقة تحت اسم الدولة السورية، لتُساق إلى هوية لم تُخلق على شاكلتها، وتُقسر على وحدة مع محافظات لا يجمعها معها نسيج ولا طبع ولا فكر.
منذ أن تقاسم المنتصرون غنائم الخلافة، اقتُطعت معظم مناطق ولاية حلب وضُمت إلى جنوب تركيا، ثم قُسمت بلاد الشام على موائد السياسة، وكان المقرر أن تكون حلب دولة مستقلة. لكن بعض الأصوات باسم الوحدة أطفأت حلم المدينة، فاختارت أن تُذيبها في كيان غريب عنها، لا يحمل من ماضيها إلا الاسم، ولا من أصالتها إلا ما ينهبه.
وليعلم الناس أن اسم سورية في كتب التاريخ إنما كان يطلق على ولاية حلب، فسورية هي الشام الاولى وهي حلب وما حولها من البلاد، كما قال ابن العديم وسائر المؤرخين. لكن بعد أن قامت الدولة الحديثة، نُقل الثقل إلى دمشق، وغابت حلب عن القرار بعد أن كانت مصدره، وبدأت رحلة الاستنزاف الطويلة.
فرضت السلطة المركزية على حلب أثقل الضرائب، وأخذت منها أكبر الواردات، لتُبنى بها مشاريع العاصمة. كان تجار حلب يتألمون في صمت، فالحكومة المركزية لم تكن تسمع إلا صدى الخزينة، ولم تكن ترى في حلب سوى بقرة حلوب تسقي غيرها وتُجاع هي. ولو أن تلك الأموال التي استنزفت من المدينة وُجّهت لتطويرها، لكانت اليوم في مصاف أرقى المدن العالمية.
ثم تتابعت سلسلة من الجرائم التاريخية المقصودة: نُزع لواء إسكندرون من جسد حلب وأُهدي لتركيا بحجة الأقليات، ثم فُصلت الرقة عنها، ثم سُلخت إدلب لتصبح محافظة مستقلة بتآمر من العاصمة. كل هذا لتُجرد حلب من امتدادها الطبيعي، وتُحاصر في جغرافيتها كما يُحاصر القلب بين جدران من الجسد الغريب.
وبينما كانت حلب تُستنزف، كان الإعلام يُشيد تماثيل المجد لدمشق، ويُخفي أن هذه العاصمة التي يتغنون بها لم تكن قبل سقوط الخلافة سوى مدينة متواضعة أمام عظمة حلب. حتى المطار الدولي الكبير الذي كان مقدرا أن يُقام في حلب، نُقل إلى دمشق بتمويل أكثره من أموال الحلبيين!
لقد أُريد لحلب أن تبقى مصدر العطاء دون ثمرة، وموردا بلا اعتراف بالفضل. كل مشروع خدمي في البلاد كان يُمول من ضرائب حلب، حتى ليُخيّل إليك أن حلب كانت الولاية التي تُنفق على الدولة لا المدينة التي تنتمي إليها.
ثم بدأ نهب التراث اللامادي، فصارت مطابخ حلب تُنسب إلى المطبخ السوري، وشيئا فشيئا صار يقال الطبق الدمشقي والطبق الحمصي والشعيبيات الإدلبية، والطرب الحلبي يُدرس تحت اسم الطرب الشامي، وكأنهم أرادوا أن يسلبوا من المدينة حتى نكهتها وصوتها!.. بل إن دول الجوار اقتبست من تراثها دون وعي ولا إنصاف، فامتلأت موائدهم ومهرجاناتهم بما هو من صنع حلب، وإن لم يذكروها.
ثم جاءت الكارثة الكبرى… حلب في زمن الحرب لم تسلم من أحد؛ الكل أراد أن ينهشها باسم مختلف.
قصفها حافظ الأسد في الثمانينيات، ثم أكمل ابنه الطريق، فهدم ما تبقى من الصناعة والتعليم والتراث باسم التطوير والتحديث.
أما في زمن الثورة، فقد دخلت الفصائل لتتخذ من أحيائها ميدانا لصراعاتها، وكأن المدينة لا تُحرر بل تُستنزف. وأما قسد فحاصرتها في الماء والكهرباء، وأقامت في أطرافها نقاط تمركز، تمنع عنها أسباب الحياة. وفي بداية الثورة، كان أول ما فُعل في أرض حلب قطع أشجار الزيتون والفستق الحلبي، وكأن الحرب لم تكن ضد النظام بقدر ما كانت ضد خصب الأرض وكرامة الإنسان وتراث حلب. تلك الأشجار التي كانت تسقي البلاد من خيرها، قُطعت بلا رحمة، فبكى عليها الفلاح كما تبكي الأم على ولدها.
ثم نُهبت المعامل فخر الصناعة السورية من الطرفين معا: من جهة النظام، باسم الاشتراكية والمركزية، فصودرت المصانع وأُفرغت الخزائن، ومن جهة الفصائل والنظام، باسم الثورة ومحاربة الإرهاب، فدخلت المعامل كما يدخل اللص إلى بيت أبيه مدعيا الوراثة!.. تم اقتلاع الآلات من جذورها، وشُحنت إلى خارج البلاد، وتحولت معامل حلب إلى هياكل من رماد.
وهكذا أُجهز على المدينة من الداخل والخارج، من العدو والحليف، من الدولة والفصائل، من النظام والجهل.
أما النظام فزاد الطين بلة حين صبّ مجارير معمل السكر في سبخة الجبول، أكبر بحيرة ملحية في بلاد الشام، فشوه الطبيعة كما شوه التاريخ. ثم قصف حلب القديمة، مهد التراث الإنساني، بينما تمركزت الفصائل داخلها لتمنحه الحجة في تدميرها، كأن بينهما خيطا خفيا من التفاهم أو التوجيه الخارجي.
لقد سُلط على حلب من الفساد ما لم يُسلط على مدينة في المشرق: تُنهب باسم الثورة، وتُهمش باسم المركزية، وتُقمع باسم الأمن، وتُجَوع باسم الحصار، وتُغتصب هويتها باسم الوطنية!.. حتى في التوظيف والإدارة، أُقصي أبناؤها، فغدت الدوائر تمتلئ بالغرباء عنها، وكأنّ أهلها لا يُؤتمنون على مدينتهم. بل إن المحافظ الذي يُعيَّن عليها، نادرا ما يكون حلبيا، وكأن الحكم فيها لا يُعطى لأبنائها ولو على أنفسهم. واليوم يُراد أن يُمحى اسم حلب من الوجود الإداري، عبر مشاريع كدمج مطارها مع إدلب، لتُغيب هويتها أكثر فأكثر.
أفبعد كل هذا، يُلام من قال إن أكبر خطأ في التاريخ هو أن حُشرت حلب في دولة لا تُشبهها، وتحت وصاية لا تنصفها؟
لقد تعبَت حلب من أن تكون خزينة الوطن، بينما الوطن لا يعترف بها إلا حين يجبي منها الضرائب. تعبت من أن تكون أم المدن في العطاء، واليتيمة في الحقوق. تعبت من أن يخطط الجميع للاستيلاء عليها: نظاما، وفصائل، وجوارا.
لكنها رغم كل ما فُعل بها ما زالت واقفة بشموخها، تتوكأ على أطلالها ولا تسقط. فإن أُريد لها أن تُدفن في التراب، فإن في ترابها من الكبرياء ما لا يُوارى. وإن أُريد لها أن تُنسى، فإن في ذاكرتها من التاريخ ما لا يُمحى. وإن كان التاريخ قد أخطأ يوما حين جمع المختلف في دولة واحدة، فلتكن هذه التجربة درسا لا يتكرر. فحلب لا تطلب الوصاية من أحد، ولا تريد أن تكون تابعة بعد اليوم، لا لمركز ولا لحدود ضيقة. تريد أن تعود إلى ذاتها، إلى روحها، إلى مجدها الذي سُرق باسم الوحدة، ونهب باسم الأخوة. فدعوا حلب لنفسها، فهي وإن جُرّدت من كل شيء ما زالت التاريخ كلّه.
مشاركة: Soumaya Bakieh / عن صفحة الفيس بوك
منقووول..


