تحت قباب الضوء ( قصة اللوح الفخاري الصامت ). الذي حمل أسرار حضارة أوغاريت – د. غسان القيم.

قصة اللوح الفخاري الصامت … حمل أسرار حضارة اوغاريت.. ووقع عليها الزمان قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام غبرت .. إنه إحدى حكايات مدينة علّمت العالم كيف يكتب..
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””

في إحدى قاعات متحف دمشق الوطني حيث تسكن آلاف القصص تحت قباب الضوء الخافت يلمع لوح صغير من الفخار بارتفاع لا يتجاوز 5.7 سنتيمترات… قطعة لا تثير الانتباه بحجمها بل بما هو أعمق: بذاكرتها.
إنه اللوح “Rs.16.142” كتلة طينية قد تبدو عابرة لولا تلك العلامات المسمارية الدقيقة المنقوشة عليه ختم ملكي وتوقيع ناسخٍ كان يعرف أن ما يكتبه ليس مجرد كلمات بل تاريخ يُحمل على الطين ليمر عبر الزمن.
حمل اللوح توقيع الناسخ “شبش ملك” واحد من أولئك الكتبة الذين عاشوا في أوغاريت في أوج ازدهارها.. حيث كان الكتبة فيها نخبة المجتمع مثقفين متعلمين يجيدون قراءة لغات متعددة ويُكلّفون بحفظ السجلات الملكية وتدوين التشريعات ونسخ المراسلات الدبلوماسية.
لم يكن “شبش ملك” مجرد ناسخ بل كاتب خبير تعلم في مدارس القصر الملكي النظامية التي عُرفت بتقدمها. وتدل دقة خطوطه على مهارة فائقة وإلمام بعالم الكتابة الذي كان حديثًا بعد أن ابتكرت أوغاريت إحدى أقدم الأبجديات في التاريخ.
كان هذا الناسخ يدرك أن النقوش التي يتركها على الطين ستصبح جزءًا من ذاكرة مملكته وربما دون أن يدري جزءًا من ذاكرة العالم كله.
أما التاريخ المدون على اللوح، فيرجع إلى عهد الملك الأوغاريتي “أرخلبو” الذي حكم بين 1335 و1340 ق.م. ملك لم يُتح له الكثير من الوقت ليترك آثارًا واسعة لكن ذِكر اسمه في هذا اللوح كان كافيًا ليشهد على وجوده وعلى مرحلة حساسة في تاريخ هذه المدينة العظيمة..
في زمن الملك أرخلبو.. كانت أوغاريت تعيش أوج ازدهارها التجاري والثقافي. كانت سفنها تجوب المتوسط، متجهة نحو قبرص وكريت والأناضول وتحمل معها الأخشاب والزيوت والمعادن. وكان قصرها الملكي المركز الأول للمعرفة حيث تكدست الألواح في أرشيفات منظمة تُشبه المكتبات المحصنة.
أوغاريت… مدينة بحجم أسطورة ترجمت الأصوات إلى رموز وخلقت من التراب أبجدية أصبحت أمًا لأبجديات العالم.
لقد كانت مدينة «المدرسة»، «المعرفة»، الشعر.. الدين.. التجارة… مدينة أراد أهلها أن يُوثقوا كل شيء: طقوسهم علاقاتهم مع الآلهة.. عقود البيع والشراء، رسائلهم للملوك في كنعان والحيثيين والمصريين وبلاد اليونان وقبرص
وتخبرنا نصوصها اليوم عن عالم متكامل:
عن صراخ الأطفال في الأزقة
عن الروائح الصاعدة من أفران الخبز
وعن الموسيقيين الذين عزفوا أقدم نوطة موسيقية مدونة في التاريخ.
كل لوح من أوغاريت كان جزءًا من حكاية كبيرة حكاية تقول لنا: «كنا هنا… وهذا ما عشناه».
بعد ما يزيد على ثلاثة آلاف عام يقف هذا اللوح الذي يحمل الرقم “Rs.16.142 “في متحف دمشق الوطني شاهدًا حيًا. إنه ليس مجرد أثر إنه رسالة..
رسالة كتبها شاب أوغاريتي يضع قصّته في يد الزمن ويقول لنا اليوم:
“هذه مدينتي وهذه كتابتي… وهذا ملك عاصرته.”
ولولا الطين الذي صُنع منه لما بقي ولولا النار التي قستْه، لما صمد ولولا شغف الباحثين وعشاق التاريخ لما عاد إلى الحياة.
إنه صدى مدينة ما تزال نصوصها تُعلّمنا كيف كانت الشعوب تفكر وتعيش وتحلم.
أوغاريت… دهشة لا تنتهي
كلما تجوّلت بين نصوصها شعرت أنك تنظر إلى المرآة الأولى للبشرية.
إلى أقدم الأبجديات
إلى أولى الأغاني
إلى القوانين
إلى حياة أناس عاشوا قبل آلاف السنين لكن أصواتهم ما تزال واضحة بفضل ألواح طينية صغيرة… كذاك الذي خطّه شبش ملك.
إنها أوغاريت… مدينة لا تحتاج أن تنهض من رمادها كي نُدرك عظمتها لأن مكتشفاتها لا تزال حيّة في كل نقش وفي كل لوح فخاري وفي كل شغف يسكن قلب من أحبّها كما يفعل..

سرد تاريخي
“””””””””””””””””
عاشق أوغاريت – غسان القيّم.

أخر المقالات

منكم وإليكم