Fareed Zaffour
الهيولى: المادة الخام التي يتكوّن منها الجمال
د. عصام عسيري
في لحظةٍ ما قبل الخلق، قبل أن تتخذ الفكرة شكلاً، وقبل أن تتحوّل الخطوط إلى وجهٍ أو جسدٍ أو مبنى، كانت هناك الهيولى تلك الكتلة الأولى الغامضة التي تحدّث عنها أرسطو بوصفها «القابل لكل صورة، والفاقد لكل شكل». هي ليست مادة بعينها، بل استعداد مطلق لأن تكون كل شيء، وكل عمل فني عظيم يبدأ من هنا: من الهيولى الداخلية في ذهن الفنان.
«الهيولى ليست ما نراه، بل ما يتوق لأن يُرى.»
مستلهم من فلسفة أرسطو في الميتافيزيقا
الفنان بين الهيولى والصورة:
كل رسّام يعرف تلك اللحظة قبل أن يرسم أول خط يضع أول ضربة فرشاة لون، حين تمتزج الفوضى والاحتمال والرغبة في الإبداع. ذلك التوتّر هو ما سمّاه القدماء الهيولى، وما يسميه المعاصرون الإلهام الخام.
النحات يشعر بها حين يحدّق في حجر صامت يرى داخله الجسد النائم. والمصمم حين يواجه شاشة بيضاء تومض فيها احتمالات الشكل النهائي دون أن يظهر بعد.
الفنان لا يبدأ من الصفر، بل من الهيولى التي تسكن داخله من طاقة المادة القابلة لأن تتحول إلى معنى.
من الفلسفة إلى التصميم:
في العمارة، يمكن قراءة الهيولى كـ«الفضاء قبل التنظيم»، كما في أعمال زها حديد أو تاداو آندو؛ حيث تُستدرج المادة الخام (الخرسانة، الضوء، الفراغ) لتأخذ شكلًا متفردًا.
أما في التصميم القرافيكي أو الصناعي، فالهيولى هي الفكرة الأولى في الذهن، «الكتلة الذهنية» التي تنتظر التنظيم. والمصمم البارع هو من يحافظ على دفء الهيولى حتى لا تجفّها الحسابات التقنية.
«الفن الحقيقي لا يصنع الشكل فحسب، بل يكشف المادة عن حقيقتها.»
مارتن هايدغر، أصل العمل الفني
الهيولى في فنون التصوير والتلوين:
حين يستخدم المصور الضوء كمادة خام، فإنه يتعامل مع الهيولى النورانية، مع ما قبل الصورة.
والرسام حين يخلط ألوانه على الباليتة، إنما يصنع هيولاه الخاصة مزيجٌ بين الفوضى والسيطرة، بين ما لا شكل له وما سيُمنح شكلًا.
الهيولى في الفن ليست مجرد فكرة فلسفية، بل هي منطقة الخلق الأولى، حيث تتصارع الرؤية مع المادة، والعقل مع الحدس.
الهيولى والخط العربي:
أما الخطاط، فهو يعيش التجلي الأوضح للهيولى، لأن الحبر والورق لا يوجدان إلا بقدر ما تتجلى فيهما الروح. كل نقطة تُكتب هي مادة تتخذ شكلاً، وكل شكل يعيدنا إلى اللامادة الأولى، إلى الفضاء الذي خرجت منه الحروف.
«النقطة أصل كل حرف، كما الهيولى أصل كل شكل.»
ابن عربي
الهيولى في زمن الذكاء الصناعي:
اليوم، حين تُنتَج الصور بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، يُعاد تعريف الهيولى الرقمية: إنها البيانات الخام التي يمكن أن تصير لوحة أو نحتًا أو عالمًا كاملًا.
لكن السؤال يبقى: من يمنحها الروح؟
ربما يعود دور الفنان إلى أن يكون «الصانع الأول للهيولى الجديدة»، من يوجّه المادة الذكية نحو الجمال الإنساني، لا الآلي.
خاتمة: سرّ الإبداع في الفن
الهيولى ليست مفهوماً ميتافيزيقياً فحسب، بل هي مرآة للفنان ذاته:
هي المساحة التي يتقاطع فيها الحلم مع الفعل، والعدم مع الوجود.
كل عمل فني يبدأ من رغبة غامضة، من ضباب داخلي يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى شكلٍ وصوتٍ ولونٍ.
ولذلك فالفن، في جوهره، ليس صنعاً من الخارج، بل تحويلٌ مستمر للهيولى التي نحملها في أعماقنا إلى وجودٍ يمكن للعالم أن يراه.
الأعمال #مقتنيات_خاصة من جميل إبداعات الفنان التشكيلي السعودي مفرح عسيري
أكريلك على كانفاس ٨٠/٦٠سم إنتاج ٢٠٢٠م


