فلسفة عبد الهادي الوشاحي تُجسد الوجود الإنساني الصمت والصرخة – بقلم: شيرى شريف.

Fareed Zaffour

  • كتبت: شيرى شريف
    “الصمت والصرخة بين أنامل عبد الهادي الوشاحي:
    فلسفة الوشاحى تُجسد الوجود الإنساني”

لم يكن عبد الهادي الوشاحي مجرد نحات بارز في الحركة التشكيلية المصرية والعربية، بل كان فيلسوفاً يقرأ الزمن من خلال الحجر، ويعيد صياغة الوجود بلغة صامتة تنطق بما عجزت عنه الكلمات. كان يؤمن أن الإبداع ليس زخرفة بصرية ولا مجرد تجميل للواقع، بل هو عين تبصر ما وراء اللحظة، وتستشرف القادم، وترى ما يعجز الإنسان العادي عن رؤيته. لذلك كان يقول بثقة إن المبدع الحق هو من يتنبأ بالمستقبل قبل أن يأتي، ويجعل من أعماله شاهداً على ما لم يحدث بعد، وكأن النحت عنده لم يكن فناً جمالياً فحسب، بل شهادة على الغد، ورسالة عابرة للزمن.
أعمال الوشاحي كانت محمّلة بالعاطفة، مشبعة بالوجدان، ناطقة بالصمت، ومتفجرة بالمعنى. لم يكن يتعامل مع الكتلة الحجرية على أنها مادة جامدة، بل كان يراها جسداً قابلاً للبوح، يختزن الأسرار ويكشفها لحظة اكتمال العمل. ولعل تجربته في عام 1974 تشكل نموذجاً بالغ الدلالة على هذه الفلسفة، حينما قدّم في إسبانيا عمله الشهير “الصمت”، الذي أهداه إلى الشعب المصري. لم يكن “الصمت” مجرد عمل فني، بل كان قصيدة حجرية تنبض بالحزن والسكينة، لوحة من الجمود الظاهري الذي يحمل داخله توتراً عميقاً. لقد أراد من خلاله أن يكتب رسالة وجدانية إلى وطنه، رسالة لا تُقال بالكلمات، بل تُنقش في الحجر لتبقى شاهدة على لحظة وجودية غامرة.
غير أن الوشاحي لم يقف عند حدود الصمت، بل في العام نفسه، في مدريد، قدّم عملاً آخر حمل عنوان “الصرخة”. هنا انتقل من حالة الكتمان إلى لحظة الانفجار، من الصمت المكبوت إلى البوح العاصف. وكأن “الصرخة” لم تكن سوى الوجه الآخر لـ “الصمت”، استمرار منطقي لمسار داخلي يتصاعد حتى يبلغ الذروة. إذا كان “الصمت” احتواءً للألم، فإن “الصرخة” إعلان عنه، وإذا كان الأول انكفاءً على الذات، فإن الثاني خروج إلى العالم. وهكذا جسّد الوشاحي ثنائية إنسانية عميقة: فالصمت الطويل لا بد أن يولّد صرخة، والوجدان المرهق لا بد أن يتحول إلى صوتٍ يتحدى الصمت ذاته.
إن ما يجعل هذه الثنائية فريدة هو أن الوشاحي لم ينقل مجرد حالات نفسية متباينة، بل جسّد قانوناً وجودياً يحكم الإنسان: فلا حياة بلا صمت، ولا انعتاق بلا صرخة. لقد جعل من الحجر مادة حيّة تتنفس بالرمز، وكأنها تتحوّل بين يديه إلى مرآة للروح البشرية بكل تناقضاتها. لم يكن النحت عنده حجراً صامتاً بل كائناً متكلماً، ينبض بالأسئلة ويصرخ بالمعنى.
فلسفة الوشاحي تتجلى هنا بوضوح: فهو يرى أن الفنان ليس مجرد ناقل لصور الواقع، بل هو كاشف لجوهر الوجود، مَن يمنح الحجر صوتاً، ويمنح الصمت معنى، ويحوّل الانفعال الداخلي إلى خطاب إنساني كوني. لذلك لم تكن أعماله حبيسة حدود الوطن أو اللحظة، بل كانت عابرة، تصلح أن تخاطب إنساناً في أي مكان وزمان، لأنها خرجت من جوهر التجربة الإنسانية ذاتها.
الصمت والصرخة عند الوشاحي ليسا مجرد عملين منفصلين، بل ملحمة متكاملة تختصر مسيرة الإنسان في بحثه عن ذاته. فحينما يصمت المرء، فهو يجمع داخله شتات التجربة، وحينما يصرخ، فهو يعلن اكتمال هذا التراكم، كأن العملين يشكلان معاً دائرة وجودية تبدأ بالاحتواء وتنتهي بالانفجار، لتعود فتبدأ من جديد. وبهذا المعنى فإن الوشاحي لم ينحت تماثيل صامتة، بل صاغ قوانين الوجود الإنساني بلغة الفن.
لقد كان واعياً بدور الفن في تشكيل الوعي الجمعي، لذلك أهدى عمله “الصمت” إلى الشعب المصري، في لحظة أراد لها أن تكون شهادة وجدانية عن العلاقة بين الفنان ووطنه، بين الإبداع والجماعة. وحينما صنع “الصرخة”، لم يكن يعبّر فقط عن ذاته، بل عن كل إنسان يختنق بالأسئلة حتى يضطر إلى التفجّر بها. إن هذه النزعة الإنسانية العميقة جعلت من الوشاحي فناناً يتجاوز حدود المكان، ويحفر اسمه في الذاكرة الفنية بوصفه نحاتاً يرى بعين الفيلسوف ويسمع بقلب الشاعر.
وهكذا يمكن القول إن عبد الهادي الوشاحي لم يترك مجرد أعمال نحتية، بل ترك لنا خطاباً فلسفياً عميقاً عن الحياة. علّمنا أن الصمت ليس فراغاً، بل امتلاء بالتساؤل، وأن الصرخة ليست مجرد انفجار عابر، بل ضرورة وجودية، لحظة ميلاد جديدة. لقد جعل من النحت لغة روحية، تحاور الروح أكثر مما تخاطب العين، وتبقى شاهدة على أن الإبداع الحقيقي هو أن نمنح للإنسان مرآة يرى فيها ذاته من جديد

بقلم شيرى شريف✍️

أخر المقالات

منكم وإليكم