ما هي قصة رصة الجرار الفخارية الثمانين التي اكتشفت في موقع مينا البيضا في ثلاثينيات القرن الماضي.. الذي كان مرفأ مملكة اوغاريت في أوج قوتها وعطائهاو ازدهارها ونافذتها البحرية ونقطة التقاء بين الشرق والغرب إلى العالم ..
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
كشفت لنا التنقيبات الأثرية التي تمت في موقع اوغاريت الأثري عام 1931م وتحديداً في موقع مينا البيضا مرفأ مملكة أوغاريت وبداية الكشف الأولي عن هذه المدينة العظيمة عن اكتشاف استثنائي أثار إعجاب العلماء والمؤرخين. فقد عثر على مخزن ضخم يضم عشرات الجرار الفخارية، التي كانت مصطفة بعناية داخل حفرة واحدة وهي واحدة من أبرز الاكتشافات الأثرية التي تسلط الضوء على التنظيم المدهش لتخزين البضائع في مدينة أوغاريت التي كانت تمثل مركزًا تجاريًا وثقافيًا مزدهرًا على حوض البحر الأبيض المتوسط.
تعود هذه الاكتشافات إلى قلب مدينة أوغاريت التي كانت مركزًا حضاريًا وتجاريًا هامًا في حضارات العالم القديم.. وكان مرفأ أوغاريت بمثابة نقطة التقاء بين الشرق والغرب حيث كان يُستخدم لتصدير وتبادل العديد من السلع مثل الزيت والنبيذ، والمجوهرات بالإضافة إلى التوابل والمواد الخام والمصنعة..
لقد أظهرت التنقيبات الأثرية التي جرت في عام 1931 صورًا نادرة لأكثر من ثمانين جرة فخارية مصطفة بعناية في حفرة واحدة. هذه الجرار التي كانت تستخدم لتخزين مواد تجارية أساسية تعكس دقة وابتكارًا في أساليب التخزين والتنظيم اللوجستي في ذلك الوقت. وُصفت الجرار بأنها كانت ضخمة ومتنوعة في أحجامها، ما يشير إلى أن أوغاريت كانت تعتمد على تخزين كميات كبيرة من السلع لتوزيعها على مختلف أنحاء البحر الأبيض المتوسط.
تعتبر “رصة الجرار الفخارية الثمانين” شاهدًا مهمًا على التطور الإداري والاقتصادي في أوغاريت. فقد كان هذا الموقع بمثابة مخزن مركزي للبضائع التجارية التي كانت تُنقل عبر المرفأ مما يعكس التنظيم الدقيق في العمليات اللوجستية داخل المدينة. وكل جرة كانت تحتوي على نوع معين من السلع، مما يسهل الوصول إلى المخزون بسرعة وفعالية عند الحاجة.
لقد لعب مرفأ أوغاريت دورًا حيويًا في التجارة البحرية القديمة حيث كان بمثابة نقطة وصل بين حضارات البحر الأبيض المتوسط المختلفة ومكانًا يتجمع فيه التجار من مختلف أنحاء العالم القديم وكان يشهد حركة تجارية نشطة طوال العام. وهذا الاكتشاف في عام 1931 يعد تأكيدًا على مكانة أوغاريت كمركز تجاري بارز في العصور القديمة.
نُشرت صورة اكتشاف”رصة الجرار الثمانين” لأول مرة في أعمال التنقيبات الأثرية التي قام بها عالم الآثار الفرنسي الراحل كلود شيفر في مجلة Syria عام 1933م ثم تم تضمينها في كتاب Ugaritica I في عام 1939م..
هذا الاكتشاف أتاح للباحثين فرصة فحص طريقة الحياة التجارية في أوغاريت بشكل غير مسبوق. تم تحليل الجرار من خلال الأدوات العلمية الحديثة في ذلك الوقت حيث أظهرت الفحوصات وجود أثر لبعض المواد التي كانت تُخزن داخل الجرار مثل زيت الزيتون.. إضافة إلى ما كانت تصدره من الزيوت العطرية والطبية والنبيذ
وقد فتح هذا الاكتشاف الباب أمام المزيد من الدراسات حول الأساليب الإدارية القديمة في التجارة والتخزين وكيفية تعامل المجتمعات القديمة مع الاقتصاد. كما أتاح للمؤرخين فهماً أعمق حول تطور التجارة البحرية ونظام اللوجستيات في ذلك العصر وهو ما يبرر أهمية هذا الاكتشاف في بناء الصورة المتكاملة حول حياة أوغاريت.
إن اكتشاف رصة الجرار الثمانين لا يعد فقط شاهدًا على نشاط أوغاريت التجاري بل هو أيضًا رمز لإدارة مبتكرة وفعّالة لموارد المدينة. مما يعكس هذا الاكتشاف حضارة كانت تحرص على تنظيم حركة سلعها التجارية وتنظيم تخزينها بطريقة دقيقة ما يعكس أيضا رؤية اقتصادية متقدمة بالنسبة لذلك الزمن.
ولا شك أن هذا الاكتشاف بالإضافة إلى اكتشافات أخرى في مدينة أوغاريت قد ساعد في إعادة بناء صورة المدينة القديمة بشكل أكمل وأكثر دقة وفتح المجال لمزيد من الدراسات حول تطور التجارة والنقل في العالم القديم مما يواصل إلهام الباحثين والمهتمين بتاريخ الحضارات القديمة حتى يومنا هذا.
كانت أوغاريت بموقعها الاستراتيجي وازدهارها التجاري واحدة من أرقى مدن العالم القديم. واكتشاف “رصة الجرار الفخارية الثمانين” هو مجرد نافذة صغيرة تكشف عن جزء من عظمة هذه الحضارة البحرية والتجارية التي تمكنت من الحفاظ على توازن اقتصادي مدهش في وقت كان فيه التنقل والتجارة بين القارات مسألة في غاية التعقيد..
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..


