لغة موسيقية نحاسية خفية..يعزفها سوق النحاسي ( الصفافير ) – ثائر الاطرقجي.

سوق الصفافير
لغة النحاس الخفية

هنا، في أزقةِ بغدادَ العتيقة، حيثُ تتنفسُ الذاكرةُ عبرَ الجدرانِ المُسنَّدةِ بظلالِ القرون، يقبعُ سوقُ الصفافير.. ليس سوقاً عادياً، بل هو حاضرةٌ من حاضراتِ الزمانِ، ومُدوِّنةٌ تُسَجَّلُ عليها سيرةُ المعدنِ والصوتِ والحِرَفَةِ المتوارَثة. إنه متحفٌ حيّ، تتعانقُ فيه رائحةُ النحاسِ القديمِ مع عبقِ التاريخ، ليُخرِجا معاً عطراً لا يُشَمُّ إلا في أماكنَ قليلةٍ على وجهِ الأرض.

لقرونٍ طويلة ، ظلَّ هذا السوقُ شاهداً على إبداعِ اليدِ العراقيةِ التي تَحوِّلُ الخامةَ الصماءَ إلى قصيدةٍ من نور.

من القِدْرِ الصغيرةِ التي تُهمِسُ بأسرارِ الطبيخِ البغدادي، إلى القدورِ العملاقةِ التي تُحاكي في ضخامتِها أحلامَ الولائمِ الكبرى، مروراً بالصواني الثقيلةِ المُزيَّنةِ بزخارفَ تُعيدُك إلى عصورِ الرشيدِ والمأمون.
ط
أما التحفُ النحاسية، تلك الشهقاتُ الفنيةُ الأخيرة، فقد كانت لغةَ الحوارِ بين البغداديِّين والسيّاح، رسائلُ جماليةٌ تُحمَلُ عبرَ المحيطاتِ لتُخبرَ العالمَ أن بغداد، رغم كل شيء، تبقى قِبلةَ الجمالِ والحضارة.

لكنَّ أعجوبةَ هذا السوقِ لم تكن في منتوجاتِه فحسب، بل في “سمفونيتِه الأرضية” الفريدة. فالمارُّ بين دكاكينِه لا يسمعُ كلامَ إنسان، بل يسمعُ حواراً عجيباً بين مئاتِ المطارقِ وهي تنزلُ على النحاسِ بإيقاعاتٍ متناغمة. لم يكنْ ضجيجاً عشوائياً، بل كان لغةً موسيقيةً سريةً، “لغةً خفية” ، يفهمُها الصفارونَ دونَ غيرِهم. كانت المطرقةُ تُغنِّي هنا بإيقاعٍ سريعٍ كأنها تُنبئُ بقدومِ زبون، وتُجاوِبُها هناك بإيقاعٍ رزينٍ كأنها تُناقِشُ سماكةَ المعدن. لو كان المرءُ موسيقاراً لاستطاعَ، ربما، تفكيكَ شيفرةِ هذا الحوارِ المعدني، لفهمَ كيفَ يتحدَّثُ الصنَّاعُ من خلالِ إيقاعاتٍ يبدعُها اليدُ والقلبُ معاً.

مع بداياتِ الثمانينيات، ومع اشتعالِ لهيبِ الحربِ العراقيةِ الإيرانية، بدأت سمفونيةُ السوقِ تخور. فغابت الوجوهُ الغريبةُ التي كانت تتطلعُ بدهشةٍ إلى تلك المعجزة، وانزوت التحفُ النحاسيةُ في زوايا النسيان. ثم جاءت تسعينياتُ القرنِ الماضي، حاملةً معها مهناً جديدةً تزحفُ على جسدِ السوقِ العتيق. فحيثُ كانت تُطرقُ القدورُ والأباريق، صارَ يُصلَّحُ مواقدُ النفط الابيض والطباخات. وحلَّ صفيرُ الغازِ محلَّ رنينِ النحاس. وانطفأت، شيئاً فشيئاً، نيرانُ (الصنَّاع) الواحد تلو الآخر، كأنما كانت تُطفَأُ شموعٌ على كعكةِ عيدٍ لن يعود.

“كم أَحنُ إلى ضوضاءِ سوقِ الصفافيرَ ولغةِ الطرقِ على النحاس”.. ليست مجردَ حنينٍ عادي، بل هي صرخةٌ نحوَ موروثٍ يغادرنا. إنها حنينٌ إلى “اللغةِ الخفية” التي لم نعدْ نفهمُها، لأننا فقدنا المفاتيحَ التي تُفتحُ بها أسرارُها. إنه موتُ الجمالِ العملي، وانزياحُ الحِرَفةِ التي كانت تُشبهُ السحر.

سوقُ الصفافيرَ اليومَ لم يعدْ ذلك المسرحَ الصاخبَ الذي نعرف. لقد غادرتهُ روحُه حينَ توقفَ ذلك الحوارُ الإيقاعيُّ بين المطارقِ والنحاس. وبقينا نحن، نُحدِّقُ في صمتِ المكان، نَحنُ إلى ذلك الضجيجِ الجميل، نَحنُ إلى تلك “اللغةِ الخفية” التي صارتْ لغةَ أشباحٍ، تُراوِحُ أرواحُها أزقةَ بغدادَ العتيقة، لتُذكِّرَنا بأنَّ بعضَ الأصواتِ، حينَ تختفي، تتركُ في الأذنِ والقلبِ فراغاً لا يُملأ.

ثائر الاطرقجي
صاحب المسرد

أخر المقالات

منكم وإليكم