الهيمنة من ظلال الغموض لا من وضوح القوانين- عبيدة فران

من يتكلم أكثر مما يجب…. يُقاد أكثر مما يظن…….

لا تنهض الهيمنة من وضوح القوانين، بل من ظلال الغموض؛ هناك، كل كلمة تظهر تكشف حدود صاحبها، وكل صمتٍ مُتعمّد يرسّخ نظام السيطرة. لا سلطان للوضوح في ساحات السلطة، وحده الغموض يمنح القوة لمن يتقنه ويصنع الخوف لمن يجهله. هنا، لا يُسمح للعقول أن تدرك، بل تُرغم على الطاعة قبل أن تدرك حدودها.

هكذا صيغت أحداث التاريخ دون إعلان أو شرح، لأن من يدير المشهد الحقيقي يكتفي بزرع فراغ صغير في قلب المعنى، فيتولّى الجميع ملأه بخوفهم وتأويلاتهم. ليس الانتصار لمن يرفع راية الحقيقة، بل لمن يحسن خلط الحقائق وإخفاء المقاصد. في هذا المناخ، يصبح الإدراك نفسه قيدًا محكمًا لا يدري صاحبه متى وُضع ولا كيف يُنزع.

في هذا الحيز المحكوم ببرودة العقول لا دفء القلوب، تصبح كل محاولة للفهم بدايةً للتيه، وتتحول الحيرة إلى شبكة متشابكة من الطاعة والرغبة والقلق. تُبقي السلطة العقول أسيرةً لهواجسها، تتلاعب بها إشارات ناقصة وجمل غير مكتملة، فيتوهم أصحابها أنهم يقتربون من الحقيقة بينما يغرقون في الضباب أكثر. هنا، الصمت ليس امتناعًا عن الكلام، بل تصميم متقن على خلق جدران غير مرئية حول الوعي الجمعي، حتى يصبح كل فرد مراقبًا لظله، وكل جماعة تظن أنها تحرس أسرارها بينما تُقاد إلى مصائرها دون أن تدرك كيف ولماذا.

كل سلطة تسعى للهيمنة تتحرك في الخفاء، لا تترك أثرًا ظاهرًا، بل تعيد تشكيل ما يظنه الناس حرية حتى يصبح القيد جزءًا من الوعي ذاته، وتعيد رسم حدود الإدراك، وتجعل الأكثر طموحًا للمعرفة هو الأكثر خضوعًا لقانون الغموض؛ فكل من يسعى للوضوح يحاصر نفسه أكثر كلما حاول الخروج من الدائرة. إن لعبة الغموض تعيد توزيع المعنى في الوعي الجمعي بلا أثر ولا توقيع، وتزرع في كل عقلٍ وهم السيطرة ليخفي عنه حقيقة القيود، وتترك الجميع يدورون في فلكها وهم يظنون أنهم أحرار في اختياراتهم، بينما لم يغادروا قط حدود الدائرة التي رسمتها لهم في الخفاء.

هناك يبدأ الغموض الاستراتيجي، لا كحيلةٍ في السياسة، بل كفنٍّ في توجيه العقول. في أروقة التاريخ، لا تُشعل الحروب دائمًا بقراراتٍ رسمية، بل أحيانًا بكلمةٍ أُعيد ترتيبها، أو عبارةٍ حُذفت منها كلمة واحدة فاهتزّت خرائط القارات كلها. ففي القرن التاسع عشر كانت أوروبا كتلةً من البارود، تتزيّن بالسلام كما تتقن الخيانة فنّ الطمأنينة. الملوك يتبادلون الابتسامات أمام الشعوب، والدبلوماسيون ينسجون خيوط المجاملات أمام الصحافة، لكن خلف كل قصر كانت هناك نيةٌ معلّقة تنتظر لحظة الشرارة. هناك تحوّل الغموض من فكرةٍ إلى فعل، ومن ظلٍّ إلى شرارةٍ أشعلت القارة.

تلك الشرارة جاءت في صيف عام 1870 على ضفاف نهر اللاهن في مدينة باد إمس الألمانية، حيث كان الملك فيلهلم الأول يقضي عطلته حين جاءه السفير الفرنسي فنسنت بينيديتي يحمل أوامر نابوليون الثالث، يطالبه بأن يتعهد رسميًا بألا يسمح لأيٍّ من آل هوهنتسولرن بالترشح لعرش إسبانيا. كان الطلب مهينًا في جوهره، يتجاوز اللياقة الدبلوماسية إلى امتحانٍ مباشرٍ للسيادة. ومع ذلك، أجاب فيلهلم ببرودٍ ملكيٍ متزن، ورفض المطلب دون صدام، ثم أنهى اللقاء باعتباره أمرًا منتهيًا.

لاحقًا في اليوم ذاته، أرسل فيلهلم برقيةً إلى مستشاره أوتو فون بسمارك في برلين، يصف فيها الموقف بدقةٍ هادئة لا انفعال فيها ولا إساءة، مجرد روايةٍ لما جرى بين ملكٍ متعبٍ وسفيرٍ متعجرف. كتب يقول:

«السفير الفرنسي أوقفني في الطريق صباح اليوم طالبًا إذنًا بأن أتعهد رسميًا بعدم الموافقة مستقبلًا على أي ترشيح من بيت هوهنتسولرن. رفضت بلطف، موضحًا له أنني لم أكن على علمٍ مسبق بأي ترشيح جديد، وأن الموضوع قد أُغلق بالنسبة لي. بعد ذلك، أثناء تناول الغداء، أُبلغت بأن السفير طلب مقابلة جديدة، لكني أجبته بأن الوقت غير مناسب، وأن أي تواصل آخر يمكن أن يتم عبر حكومتينا».

كانت هذه البرقية بسيطة، خالية من أي طابع استفزازي، تنتمي إلى تقاليد المراسلات الدبلوماسية أكثر مما تنتمي إلى التاريخ. لكنها حين وصلت إلى مكتب بسمارك لم تبقَ كذلك. فقد جلس المستشار الحديدي يقرأها كمن يقرأ خريطة حربٍ غير مكتوبة، وأدرك أن الحبر يمكن أن يُحدث ما لا تفعله الجيوش. فأمسك القلم وأعاد صياغتها ببرودٍ لا يحمل أثر انفعال، لكن كل حذفٍ فيها كان طلقة، وكل جملةٍ مختصرة كانت ضربة موجهة بعناية. النسخة التي أُرسلت إلى الصحف والبعثات الدبلوماسية جاءت كالآتي:

«بعد أن أُبلغت الحكومة الفرنسية من قبل الحكومة الإسبانية بخبر تنازل الأمير هوهنتسولرن، طلب السفير الفرنسي في إمس من جلالة الملك أن يتعهد رسميًا بألا يمنح موافقته مستقبلًا لأي ترشيح من هذا البيت. عندها رفض جلالة الملك استقبال السفير مرة أخرى، وأبلغه عبر مساعده أنه ليس لديه ما يضيفه».

بهذا الاختصار الماكر اختفت النبرة الهادئة، وتحوّل الرفض المهذب إلى إهانة، وكأن الملك أغلق الباب في وجه السفير. خرج النص إلى العلن وقد استبدل الدبلوماسية بالازدراء، والاحترام بالتحدي. لم تتضمّن البرقية كذبًا، لكنها تحوّلت من تواصلٍ إلى تحريكٍ للزمن نفسه، وأخذت تُقرأ كما يُقرأ إعلان حربي خفي.

حين قرأ الفرنسيون النص اشتعل فيهم الإهانة، وحين قرأ الألمان الجملة ذاتها استيقظ فيهم الفخر. كانت الكلمات واحدة، لكن معناها انقسم، والغضب توحّد. وفي أيامٍ معدودة، تحولت الصحف في باريس إلى ساحات تعبئة، وامتلأت الشوارع بنداء الثأر، بينما في برلين ارتفعت الحماسة كأن القارة كلها تتنفس من عقلٍ واحد لا من قلوبٍ متعددة.

وهكذا، قبل أن تتحرك الجيوش أو تُصدر الأوامر، كانت الحرب قد اشتعلت في الإدراك. الإهانة لم تكن في النص، بل في التأويل، والرصاصة الأولى لم تُطلق من فوهة بندقية، بل من قلمٍ أدرك أن الغموض، حين يُوجَّه بذكاء، يصبح سلاحًا يسبق كل سلاح.

ومن تلك البرقية القصيرة التي عُرفت في التاريخ باسم «برقية إمس»، سقطت إمبراطورية نابوليون الثالث وتوحّدت ألمانيا تحت التاج البروسي، لأن بسمارك لم يكن يسعى إلى نصرٍ عابر، بل إلى ولادة أمة. كان يدرك أن الولايات الألمانية الجنوبية، كبافاريا وفورتمبيرغ وبادن، لن تقبل الانضمام إلى مشروعه إلا أمام خطرٍ خارجي يوحّدها. لم يكن التوحيد ممكنًا بالمفاوضات، بل بالتهديد، لا بالخطاب، بل بالخطر. ولذلك احتاج أن تُعلن فرنسا الحرب، لا أن يعلنها هو، لأن من يبدأ يُدان، ومن يُستدرج يُمجَّد.

وحين انفجرت الأزمة، التفت الشعوب الألمانية حول بروسيا كما لو أنها تدافع عن ذاتها، بينما كانت في الحقيقة تنفّذ خطته الكبرى دون أن تشعر. فقد كان بسمارك يعلم أن الدم وحده يصنع ما تعجز عنه الخطابات، وأن الأمة لا تُولد إلا من عدوٍّ مشترك. لذا لم يكن تلاعبه بالبرقية عملاً دعائيًا، بل خطوةً محسوبة في هندسة التاريخ نفسه.

لقد جعل فرنسا تظن أنها تمسك بزمام المبادرة، بينما كانت تتحرك داخل فخٍّ لغويٍ صاغه ببرودٍ ميتافيزيقي؛ فخٍّ لم يُغلق باب الدبلوماسية، بل أغلق باب العودة. وهكذا لم تكن الحرب خطأً دبلوماسيًا، بل إنجازًا استراتيجيًا صُمّم ليعيد رسم الخريطة بحدودٍ من نار، حدودٍ خُطّت بالكلمات قبل أن تُخطّ بالمدافع.

لم تكن عبقرية المشهد في الحرب التي اندلعت، بل في الإدراك الذي صنعها. فحين يُستخدم الغموض كأداةٍ للتاريخ، لا يبقى في حدود السياسة، بل يتحول إلى لغةٍ لفهم الإنسان ذاته، لغةٍ تتحكم في وعيه قبل أن تتحكم في مصيره. فالغموض المقصود يمنح صاحبه سلطة تشكيل الاتجاه العام، وتوجيه خصومه قبل أن يكتشفوا نواياه. في عالمٍ بلا ثقة، يصبح الغموض درعًا وسيفًا في الوقت نفسه، يربك العدو ويُغريه، فيظن أنه يختار، بينما يتحرك داخل المساحة التي رسمها له من يفهم اللعبة.

فالوعي الجمعي لا ينصاع للدليل، بل للانطباع الذي يُقدَّم له كدليل. ومن يملك القدرة على تشكيل المظهر يملك المعنى، لأن الحقيقة لا تُصدَّق لصدقها، بل لهيئتها، ولأن الإدراك في العقول لا يقوم على ما هو قائم، بل على ما يُرى أنه قائم. وقد لمس غوستاف لوبون هذه البنية في سيكولوجيا الجماهير، حين أشار إلى أن العقول في الجماعة لا تتفاعل مع البرهان، بل مع الصورة التي تمنحه سلطة البرهان. فالحشود تُقاد بالإيحاء لا بالمنطق، وبالانطباع لا بالحقيقة، ولهذا يغدو من يصنع المظهر هو من يملك مصيرها. ومن فهم هذه المعادلة أدرك أن السيطرة لا تحتاج إلى قهرٍ مباشر، بل إلى هندسةٍ دقيقةٍ للوهم، يُصاغ فيها الإدراك حتى يظن أنه حرّ.

فالغموض الاستراتيجي لا يستند إلى الجهل، بل إلى خوف الإنسان من الفراغ، ذلك الخوف الذي يدفع العقل إلى ملء المجهول بما يتخيله، فيُسقط عليه رغبته حينًا وخوفه حينًا آخر، حتى يتحول الوهم إلى يقينٍ داخليٍ يفرض طاعته بلا إكراه.

القادة الذين يُتقنون إدارة الإدراك لا يلوّحون بالقوة، لأن الغموض المحسوب يكفي ليزرع الخوف أعمق من أي تهديدٍ معلن. فالشعوب حين تجهل حدود الخطر تتوحد حول من يمنحها وهم الأمان، والخصوم حين يجهلون حدود القوة يتصرفون كما لو أنها لا تُحدّ. وهكذا يتحول الغموض من حيلةٍ إلى بنية، ومن غيابٍ إلى حضورٍ يسيطر بصمته، يوجّه العقول دون أن يظهر، ويُخضع الإرادات دون أن يطلب الخضوع.

توقّف الآن وتأمّل ما حولك. كم فكرةً ظننت أنك اخترتها، وكم موقفًا أقنعت نفسك أنك صنعته، بينما كنت تتحرك داخل لعبةٍ شُكّل وعيك فيها آخرون، يتركون لك الضوء لتظن أنك ترى، والصوت لتظن أنك تتكلم، فيما كل ما تفعل هو أن تُكمل نصًا كُتب لك من قبل، بيدٍ لم ترها، ومعنى لم تختره، وحقيقةٍ لم تكن يومًا لك.

عبيدة فران

أخر المقالات

منكم وإليكم