يُعدّ تعليم الفنون أحد أكثر مجالات المعرفة الإنسانية ارتباطًا بتحولات الفكر والثقافة.تابعوا معنا تطور تعليم الفنون.من القديم وحتى الآن – تقديم:د.عصام عسيري.

تطور تعليم الفنون، من القديم لليوم وغدًا
د. عصام عسيري

مقدمة: يُعدّ تعليم فنون الرسم والنحت والخزف والخط والزخرفة وأشغال الخشب والمعادن والجلود والخوص وكل مجالات التصميم أحد أكثر مجالات المعرفة الإنسانية ارتباطًا بتحولات الفكر والثقافة. فمنذ أقدم الحضارات، لم يكن الفن ممارسة تلقائية فحسب، بل كان دومًا مرتبطًا بنُظم تعليمية صريحة أو ضمنية تحدد علاقة الفنان بالمعرفة، وبالمجتمع، وبالسلطة الجمالية السائدة.
وتكشف دراسات تطور تعليم الفن عن انتقال واضح من التعلّم بالممارسة الحِرفية إلى التعليم الأكاديمي المنهجي، ثم إلى النماذج المعاصرة التي تدمج البحث، والنقد، والتكنولوجيا.

أولًا: نظام التلمذة والورش الفنية (Antiquity – Middle Ages)

قبل ظهور الأكاديميات، كان تعليم الرسم والنحت والخط والزخرفة والخزف ومجالات التصميم يتم عبر نظام التلمذة داخل الورش الفنية، سواء في الحضارات القديمة أو في أوروبا الوسيطة والفن الإسلامي.
يشير إرنست غومبرتش إلى أن الفنان في تلك المرحلة كان يُدرَّب بوصفه “صانعًا ماهرًا” يتعلم عبر المحاكاة اليومية للعمل، لا عبر الدراسة النظرية المنظمة.

خصائص هذا النموذج:
التعلم بالملاحظة والمشاركة، غياب الفصل بين التعليم والإنتاج، وهيمنة المهارة التقنية على التفكير النظري.

ورغم فاعلية هذا النظام في إنتاج مهارات عالية، إلا أنه افتقر إلى:
التأمل الجمالي، التحليل النقدي، الوعي التاريخي بالفن.

ثانيًا: الأكاديميات الفنية وبناء المنهج الكلاسيكي (16–19م)

1. عصر النهضة وبدايات الأكاديميات
شكّل تأسيس Accademia del Disegno في فلورنسا (1563م) نقطة تحوّل محورية في تاريخ تعليم الفن.
لأول مرة، أصبح الفن يُدرَّس ضمن: منهج، مقررات، تقييمات، ومعايير جمالية محددة.
ركزت الأكاديميات على: الرسم من التماثيل الكلاسيكية، التشريح، المنظور، النسب المثالية.

2. الأثر المعرفي للأكاديميات
يرى نيكولا بيفزنر أن الأكاديمية نقلت الفنان من مرتبة الحرفي إلى مرتبة “المثقف البصري” كما فعل ليواردو دافنشي مع تلاميذه في أكاديميته في ميلان، غير أن هذا النموذج رغم صرامتة وجموده، وهيمنة ذوق واحد، مهّد لاحقًا لرفضه من قبل الحركات الحداثية.

ثالثًا: الحداثة وتفكيك التعليم الأكاديمي

مع بدايات القرن العشرين، أعادت حركات مثل الباوهاوس تعريف تعليم الفن، عبر: دمج الفنون بالحِرف والصناعة، التركيز على التجريب.
تجاوز الفصل بين الرسم والنحت والتصميم.  ثم لاحقًا، في أواخر القرن، ظهر التعليم المفاهيمي، حيث: أصبحت الفكرة مركز العملية الفنية، فتحوّل الاستوديو إلى فضاء بحثي ونقدي.

رابعًا: نظرية DBAE – التربية الفنية القائمة على التخصصات

1. النشأة
ظهرت Discipline-Based Art Education (DBAE) في الولايات المتحدة خلال الثمانينيات، بدعم من Getty Center for Education in the Arts، كردٍّ على اختزال تعليم الفن في التعبير الحر فقط.

2. المحاور الأربعة
وفقًا لمايكل داي وأليوت آيزنر، تقوم DBAE على أربعة مجالات معرفية متكاملة؛

1. الإنتاج الفني
2. تاريخ الفن
3. نقد الفن
4. علم الجمال

3. القيمة الأكاديمية
أعادت للفن مكانته كعلم ومعرفة، وأسّست للمناهج الجامعية المعاصرة وقرّبت تعليم الفن من العلوم الإنسانية، وتعبر المملكة العربية السعودية من اوائل الدول العربية تتبنّى هذه النظرية، وتجري حاليًا تطويرات شارفت على التنفيذ قريبًا.

خامسًا: STEAM – دمج الفن بالعلوم والتقنية

1. الخلفية الفكرية
في بدايات القرن الحادي والعشرين، تطور نموذج STEM ليشمل الفن، مؤكدًا أن الإبداع عنصر جوهري في الابتكار.
2. تطبيقات STEAM في الرسم والنحت
النحت الرقمي والطباعة ثلاثية الأبعاد.
التصميم البيئي.
التصور البصري للبيانات.
الربط بين الرسم والبحث العلمي.
تشير دراسات التربية المعاصرة إلى أن إدماج الفن في STEAM يعزز التفكير النقدي وحل المشكلات، لكنها تغفل دراسة علوم المجتمع والأدب والدين واللغة.

سادسًا: ما بعد الممارسات التعليمية المعاصرة

1. البحث القائم على الممارسة
يُعدّ العمل الفني ذاته معرفة، وهو اتجاه معتمد في برامج الماجستير والدكتوراه الفنية.

2. التعليم القائم على المشاريع
يعتمد على إنتاج مشروع متكامل يحاكي الواقع المهني للفنان.

3. التربية النقدية
تربط الفن بقضايا الهوية، السياسة، والذاكرة الثقافية.

سابعًا: الدور الإسلامي في تعليم الفنون الخط والزخرفة

1. الخط العربي كنموذج تعليمي صارم
قدّمت الحضارة الإسلامية أحد أكثر نماذج تعليم الفن انضباطًا في التاريخ.
يركّز تعليم الخط على: القاعدة، النسبة، التكرار ونظام الإجازة.
2. الكراريس والمناهج
منذ ابن مقلة (ت. 940م) وما بعد ابن البواب وياقوت المستعصمي، وُضعت قواعد رياضية دقيقة لرسم الحرف، دُرّست عبر: الأمشاق، النسخ وتصحيح الأستاذ.

3. تعليم الزخرفة
الزخرفة الإسلامية قائمة على: الهندسة، التماثل والتجريد.
ويرى أوليغ غرابار أن الزخرفة الإسلامية تمثل “تفكيرًا بصريًا رياضيًا” يسبق مفاهيم التصميم المعاصر.

4. قراءة مقارنة
يمكن النظر إلى تعليم الخط والزخرفة بوصفه:
نموذجًا مبكرًا لـ DBAE،
وسابقًا فلسفيًا لدمج الفن بالرياضيات (STEAM)، كما في المدارس العربية في الحرمين الشريفين، البصرة، الكوفة، بغداد، الشام، مصر، تركيا، المغرب، الأندلس، بلاد فارس ومنها تبريز وغيرها من مدارس كثير أمتدت من أقصى شرق آسيا لأقصى غرب أوروبا

ختامًا: يكشف تطور تعليم الرسم والنحت وغيرها من أشغال وتصاميم وفنون جميلة وتشكيلية وتطبيقية ونوعية، أن الفن لم يكن يومًا ممارسة معزولة، بل نظامًا معرفيًا متكاملًا.
ومن التلمذة القديمة، إلى الأكاديميات الحديثة، إلى DBAE وSTEAM، وصولًا إلى البحث الفني المعاصر، يتأكد أن مستقبل تعليم الفن يكمن في التوازن بين الإنسان، المهارة، الفكرة، المعرفة والتاريخ، والتقنية.

كما أن إعادة قراءة التجربة الإسلامية في تعليم الخط والزخرفة تفتح أفقًا لإعادة بناء مناهج تعليم فني معاصر متجذّر حضاريًا ومنفتح عالميًا، وهذا ما رأيناه في معهد مسك للفنون منذ تأسيسها في 2017م، وسنراه في جامعة الفنون والمعهد الثقافي الفني بالرياص الذان أعلن عنهم مؤخرًا، والأسبوع القادم عند انطلاقة مركز الأمير محمد بن سلمان للخط العربي بالمدينة المنورة مباركًا بحول الله.

************
المصادر:
– العربية .نت
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
********

أخر المقالات

منكم وإليكم