من يشاهد لوحة «برج بابل ١٥٦٣» لبيتر بروغيل أو لوحة تبلبل الألسن ١٨٦٦ لغوستاف دور.بالنتيجة الإنسان للتفاهم يحتاج الى لغة .والخلاف بدونها.

من يشاهد لوحة «برج بابل ١٥٦٣» لبيتر بروغيل أو لوحة تبلبل الألسن ١٨٦٦ لغوستاف دور؛ يشعر وكأنه يرى العالم من الأعلى: بناء ضخم يحاول أن يشقّ السماء، وحشود من البشر من كل الجهات، ثم في الخلفية ذلك الإحساس بأن شيئًا ما انكسر بينهم؛ أن الأصوات تتداخل دون أن تلتقي. هذه اللوحة القديمة تحوّلت مع الزمن إلى رمز لفكرة أعمق بكثير من مجرد برج لم يكتمل. إنها ما يمكن أن نسميه اليوم «الظاهرة البابلية»، أي اللحظة التي تفقد فيها البشرية لغتها المشتركة، ليس بالضرورة لغة الكلام، بل لغة الفهم.

هذه الفكرة لم تبقَ أسطورة، بل أصبحت مادة حيّة في الأدب والسينما والفكر. الكاتب الأرجنتيني بورخيس قدّم في «مكتبة بابل» صورة مدهشة لعالم مكتظ باللغات والكتب والمعاني، لكنه في النهاية عالم لا يفهم أحد فيه أحدًا، لأن الزيادة الهائلة في الكلمات أدّت إلى غرق كامل في الضجيج. وفي السينما قدّم فيلم «بابل» صورة مؤلمة لعالم صغير جدًا جغرافيًا، لكنه ممزّق نفسيًا وثقافيًا. أربع قصص في أربع دول، وأربعة أشخاص يتحدثون لغات مختلفة، لكن الحقيقة أن العائق لم يكن اللغة، بل عدم القدرة على الفهم العميق. وكأن البشر يعيشون في برج واحد، لكن في طوابق معزولة.

حتى الفلسفة تعاملت مع بابل باعتبارها أكثر من حدث أسطوري. جاك دريدا كتب نصًا مهمًا عن «أبراج بابل»، ليقول إن البشر قد يتحدثون اللغة ذاتها، لكن ذلك لا يعني أنهم يشاركون المعنى نفسه. وزيغمونت باومن ذهب أبعد حين وصف عالم اليوم بأنه «بابل واسعة»، عالم فيه كل شيء مسموع، لكن ليس كل شيء مفهوم. كأن المشكلة ليست في الأصوات، بل في قدرة الوعي على استقبالها وترجمتها.

وعندما ننظر إلى واقع الشبكات الاجتماعية اليوم، ندرك أن الظاهرة البابلية لم تنتهِ، بل عادت بقوة أكبر. المنصات الرقمية وفّرت لنا ما كان يبدو حلماً قبل عقود: ترجمة فورية، تواصل لحظي، قدرة على تجاوز كل حدود اللغة والزمان والمكان. ومع ذلك أصبح سوء الفهم أكبر، والانقسام أعمق، والقبائل الرقمية أكثر تشظيًا. نحن نتواصل بسهولة، لكننا نفهم بصعوبة. نكتب بالعربية أو الإنجليزية أو غيرهما، لكننا نعيش داخل «فقاعات» مختلفة، لكل واحدة لغتها الضمنية ومنطقها الخاص وطريقتها في تفسير العالم. كأننا عدنا إلى البرج نفسه، لكن هذه المرة لا لأن الألسنة تفرّقت، بل لأن العقول تباعدت.

ومع صعود الذكاء الاصطناعي، يزداد المشهد تعقيدًا. فالأداة التي وعدتنا بإزالة الحواجز قد تصنع فجوات جديدة. الذكاء الاصطناعي يفهم كل اللغات، لكنه لا يشاركنا تجربتنا الإنسانية. يفهم الكلمات، لكنه لا يعرف طعم الخوف أو الفقد أو الأمل. وهكذا تنشأ بابل جديدة: بابل بين الإنسان والآلة، بين العقل البيولوجي والعقل الخوارزمي، بين التجربة الحية والمعنى المحسوب.

في النهاية، تشير الظاهرة البابلية إلى حقيقة بسيطة وعميقة في آن واحد: الإنسان لا يحتاج إلى لغة لكي يختلف، بل يحتاج إلى لغة لكي يتفاهم. وما لم نمتلك مساحة مشتركة للفهم، ستظل الأبراج تنهض وتنهار، وستظل الأصوات تصعد دون أن تجد من يصغي إليها. وهذا بالضبط ما قصده باومن حين قال إن العالم الحديث يشبه بابل: أصوات كثيرة، ومعانٍ قليلة، وسباق دائم للبناء وسط غياب مشترك للمعنى.

أخر المقالات

منكم وإليكم