مناظرة أدبية متخيَّلة بين جرير والفرزدق في جوٍّ يحاكي أسلوبهما وسجالهما الشعري، مع مراعاة اللغة الأدبية والفصاحة وحرارة النقائض:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
مناظرة أدبية بين جرير والفرزدق
في مجلسٍ عامرٍ بالشعراء والمهتمّين بالأدب في بلاط الخليفة، جلس جرير في أحد الجوانب، بثيابه البيضاء وابتسامته الساخرة، بينما وقف الفرزدق عابساً، يشدُّ لحيته الكثيفة وقد بدت عليه العزّة والفخر.
افتتاح المجلس
نهض الراوي وقال:
“يا سادة المجلس، نحن اليوم على موعد مع مناظرة بين فارسَي النقائض، جرير والفرزدق، ليعرض كلٌّ منهما رؤيته للشعر ومكانته، وليبيّن أيّهما أشعر وأقدر على صوغ البيان.”
_ كلمة الفرزدق:
وقف الفرزدق وقال بصوت جهوري:
أنا ابنُ جَلا وطَلاّعُ الثَّنَايَا *** متى أضعِ العِمامةَ تَعرِفوني
“أيها القوم، الشعرُ عندي نَسَبٌ يُحمى، ومجدٌ يُصان، به أرفع قومي وأذود عن حماهم.
الشعرُ ليس هزلًا ولا لعباً بألفاظٍ رِقاق، بل هو مهابةٌ وجزالة، وفخامةٌ تليق بالعرب ومأثورها.
ولستُ كمن يجعل الشعر مطيّة للمديح الرخيص أو الهجاء الضعيف؛ إنما أجعلُه سيفاً في يد الحق، وصوتاً يخلّد المآثر ويكشف الزيف.”
ثم التفت إلى جرير وقال مؤكّداً:
فغضّ الطّرفَ إنك من نُميرٍ ***
فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
_ ردّ جرير:
ابتسم جرير ابتسامة العارف بقدره وقال:
إنّي امرؤٌ لَسِتُ في الهجوِ بدْعاً *** لكنّني في المديحِ فريدُ
“أيها الحاضرون، الشعرُ عندي حديقةٌ من المعاني، فيها العذبُ والرصين، واللينُ والصلب، وهو صوتُ القلب والروح، لا مقصورٌ على الفخر وحده.
الشعرُ يُقال ليهشّ له السمع، ويطربُ له القلب، وينجذب إليه من كان له ذوقٌ أو معرفة.
وأما صاحبي الفرزدق، فشعرُه كصخرٍ صلد، فيه القوة ولا يُرى فيه الجمال. وأنا أرى أن الشاعر الحق من جمع الطبع العذب واللسان الفصيح.”
ثم أشار إلى الفرزدق وقال ساخراً:
إذا غضبتْ عليك بنو تَمِيمٍ *** حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضابا
_ تبادل الحُجج
الفرزدق (بحدة):
“يا جرير، لو كان الشعرُ بالرِّقة وحدها لكان الغزلاءُ أشعر الناس! إنما الشعرُ سوقٌ تُعرض فيها فصاحة العرب، ولا ينهض بها إلّا من كان له أصلٌ ونسب.”
_ جرير (بهدوء وثقة):
“الأصلُ في الشعر حسنُ السبك وصدقُ العبارة، لا كثرةُ الادّعاء. وهل يرفع الشاعرَ غير أبياته؟ وهل يحميه نسبٌ إذا خذلته قريحته؟”
_ الفرزدق:
“قافيتي حصينة، ولفظي قويّ، ومَن يقرأ قصيدي يدرك مكانتي.”
_ جرير:
“لكنّ شعري يدخل القلوب قبل الآذان؛ وما كان كذلك فهو أولى بالبقاء.”
_ خاتمة المجلس:
وقف الراوي وقال:
“لقد استمعنا إلى فارسَي الشعر وقد ظهرت ملامح الاختلاف بينهما:
الفرزدق يرى الشعر ميداناً للفخار والجزالة.
جرير يراه عالماً من العذوبة والبيان الرشيق.
وقد بقي الخلاف بينهما شاهداً على خصوبة التراث العربي وغنى فنّ النقائض الذي جمعهما في منافسة لم تخلُ من الحدة والفكاهة، لكنها رفعت من شأن الشعر وخلّدت أسماءهما.”
_ خاتمة:
وهكذا انفضّ المجلسُ على وقع سجالٍ لا يُطفئه زمانٌ ولا يحدّه مكان، فجريرٌ والفرزدق—وهما قطبا النقائض وسنامُها—لم يكونا يتخاصمان على قصيدةٍ تُقال، بل على تأويل معنى الشعر نفسه: أهو سيفٌ يُشهر لرفعة القبيلة كما يرى الفرزدق، أم هو نبعٌ يتدفّق بالعذوبة والنبض الإنساني كما يذهب إليه جرير؟
ذلك الاشتباك بين الصخر والنسيم، بين الفحولة والرشاقة، هو ما منح شعرهما قدرةً على البقاء في ذاكرة العرب، لا بوصفه مجرّد هجاءٍ متبادل، بل كحوارٍ كبير حول ماهية القول الشعري وجمالياته وحدود سلطته.
لقد أثبتت هذه المناظرة المتخيَّلة أن الشعر العربي، في زمنهما كما في زماننا، كان ولا يزال مرآةً للإنسان العربي: عناده، مجده، طموحه، وغضبه، وحنينه إلى لغةٍ تحفظ له ماء وجهه وهويته.
ولعلّ أجمل ما خلّفه هذا السجال أنّه لم يترك فينا أثراً من العداوة، بل ترك دهشة الفن وبهجة البلاغة، وذكّرنا أنّ اختلاف الشاعرين كان اختلافَ قمّتين، وأن النقائض—على حدّتها—كانت مدرسةً في البيان، وحواراً متقداً أضاء سماء الشعر وما زال يُضيئها إلى اليوم.


