لم يكن ذاك البيت الطيني سوى قبضة ترابٍ اشتاقت أن تصير مأوى .. فاجتمعت جدرانه المتواضعة مثل أذرعٍ قصيرة لكنها صادقة تحتضن صاحبها كلما ضاقت به الدنيا. أمام الباب نبتت شجيرة ياسمين دون أن يسقيها أحد وكأن الأرض أرادت أن تخبر الفقراء أنها تعرفهم واحدًا واحدًا وتمنحهم من جمالها ما يعوّض بُخل الحياة. شرّفت تلك الشجيرة عتبة البيت فصارت كالعروس التي تتزيّن وحدها دون مرآة.
كان الباب الخشبي يئنُّ في كل زيارة ليس ضجرًا بل فرحًا خجولًا يشبه لهفة الشيخوخة حين تستعيد أيام الشباب. بابٌ يعرف الخطوات قبل أن تدبّ على التراب ويفتح صدره للقادم لا يسأل عن اسمه ولا عن جيبه.
في الداخل تجتمع الحياة كلها في غرفة واحدة:
السرير الذي نامت عليه الأحلام البسيطة
والحكايات التي تتدلّى من السقف مثل عناقيد
والضحكات التي تعلّمت أن تخفت احترامًا للليل
وقليل من الحياء الذي يضيف للبيوت الصغيرة وقارًا لا يشبه وقار القصور.
موقد صغير يتنفس من بقايا الحطب وفوقه إبريق شايٍ قديم
لا يحفظ الماء كثيرًا… لكنه يحفظ الذاكرة،
يحفظ تلك الجلسات التي يبدأ فيها الكلام مهمومًا وينتهي دافئًا
وتلك اللحظات التي يحوّل فيها الفقر كأس الشاي إلى عيدٍ صغير.
هناك يجلس صاحب البيت على حصيرته البالية الطاهرة
رافعًا رأسه لا عن غرور بل عن يقينٍ أنه لم يخن فقره يومًا.
ابنُ هذه الجدران المتشققة وسقفها الذي يسرّب المطر..
فإذا انهمر الماء من الفتحات ضحك وقال:
“هطول السماء خير… حتى لو دخل علينا.”
وللمطر على الصفيح موسيقى لا يعرفها الأغنياء
موسيقى تجعل الليل أحنّ وتجعل الفقير يشعر أن السماء تقاسمه السهر.
عند هذا البيت تتعلم معنى الكرامة حين يكون الفقير فقيرًا… دون أن يعتذر.
وحين يقدّم ما لديه وهو يعرف ويعرف الجميع أنه قليل
لكنه يُقاسِم حتى آخر كسرة خبز وآخر مقعد خشبي.
فالكرم عند أهل الطين ليس عادة… بل فطرة.
هنا تدرك أن قيمة البيوت ليست في اتساعها
بل في اتساع أهلها
وفي ذلك الدفء الذي ينبعث من قلب الساكن لا من جدرانه.
وهذا البيت الطيني رغم فقره المدقع
يحفظ في صدره ما لا يُشترى:
حميمية لا تشيخ
وذاكرة لا تُباع
وروحًا تقول لكل عابر
إن الفقر ليس عيبًا…
والتواضع ليس هزيمة…
بل هو جمالٌ يولد من التراب
ويكبر مثل شجيرة ياسمينٍ نبتت وحدها
لتذكّر العالم أن بعض العطر… لا يُشترى.
عاشق اوغاريت.. غسان القيم..


