كتب الدكتور: عصام عسيري.كتب عن:التأمل.هو جوهر العملية الفنية والإبداعية،وبذرتها الأولى،وفضاؤها الأرحب.

التأمّل: حين يصغي اللون لنبض الكون

د. عصام عسيري

ليس التأمّل عند الفنان التشكيلي فعلاً ذهنياً عابراً، ولا استراحة مؤقتة من الفعل الإبداعي، بل هو جوهر العملية الفنية والإبداعية، وبذرتها الأولى، وفضاؤها الأرحب. إنّه تلك الحالة التي يتخفّف فيها الفنان من صخب الخارج، ليصغي إلى همس الداخل، فتلتقي الطبيعة بالخيال، والكون بالإنسان، والوجدان بالإبداع.

الفنان لا يرسم ما تلتقطه العين وحدها، بل ما يستدعيه التأمّل من أعماق الذاكرة والحدس. ففي لحظة التأمّل، تتحوّل الطبيعة من مشهد مرئي إلى كيان حيّ، ويغدو الكون كتاباً مفتوحاً للقراءة البصرية. الجبل ليس كتلة صخرية، بل صبرٌ متراكم، والنهر والبحر ليسا ماءً أزرق، بل قلقٌ أبدي، والإنسان ليس هيئة، بل سؤال عمّا يخفيه من أفكار ومشاعر وذكريات وقدرات.

الخيال هنا لا ينفصل عن الواقع، بل يولد منه. فالتأمّل هو التربة الخصبة التي ينبت فيها الخيال، ويتمدّد فيها الاستلهام. حين يتأمّل الفنان منظر، لا يراه كما هو، بل كما يشعر، وكما كان، وكما يمكن أن تكون عليه المنظر. ومن هذا التداخل بين المرئي واللامرئي، بين المحسوس والمحتمل، تتشكّل اللغة التشكيلية بوصفها تعبيراً عن الوجدان الإنساني قبل أن تكون شكلاً جمالياً.

لقد أدرك كبار الفنانين والفلاسفة هذه الحقيقة مبكراً. يقول ليوناردو دافنشي:
«التأمّل هو أصل كل معرفة حقيقية»،
ويضيف فنسنت فان غوخ، في إحدى رسائله:
«أجلس طويلاً أمام الطبيعة، أتأمّل، حتى تبدأ هي في الرسم داخلي».
أما بول سيزان، فقد اختصر التجربة بقوله:
«على الفنان أن يرى الطبيعة بالكرة والأسطوانة والمخروط، لكن بعين متأمّلة».

وفي الفلسفة، يضع التأمّل في قلب الفعل الإبداعي والمعرفي. يقول أفلاطون:
«الجمال هو إشراقة الحقيقة التي لا تُرى إلا بالتأمّل»،
بينما يرى غاستون باشلار أن الخيال المتأمّل هو ما يمنح الإنسان قدرته على الحلم، حين يقول:
«التأمّل العميق هو الذي يحوّل الصورة إلى تجربة داخلية».
أما كاندنِسكي، فيربط بين التأمّل والروح مباشرة:
«اللون مفتاح، والعين مطرقة، والروح هي البيانو ذو الأوتار المتعدّدة».

التأمّل عند الفنان التشكيلي -رسامًا، خطاطًا، نحاتًا، مصمما، ومهندسًا- هو نقطة التقاء الإنسان بالكون. ففي عزلة المرسم، أو في حضن الطبيعة، أو في زحام المدينة والاختلاط بالناس، يمارس الفنان طقساً إنسانياً قديماً: البحث عن المعنى. ومن خلال هذا البحث، تتحوّل اللوحة إلى مساحة اعتراف، وإلى أثر وجداني يختزن تجربة إنسانية مشتركة.

وفي زمن تتسارع فيه الصور وتُستهلك بلا توقّف، يصبح التأمّل فعلاً مقاوماً، واستعادة لقيمة البطء، وحقّ الرؤية العميقة. فالفنان المتأمّل لا ينتج أعمالاً للعرض فقط، بل يقدّم دعوة صامتة للإنسان كي يتوقّف، ويتأمّل، ويعيد اكتشاف علاقته بالطبيعة، وبالكون، وبذاته.

هكذا يغدو الفن ثمرة تأمّل طويل، لا يُقاس بزمن إنجازه، بل بعمق أثره. فحين يتحد الخيال مع الاستلهام، والوجدان مع الإبداع، يولد العمل التشكيلي ككائن حيّ، يشهد على أن التأمّل ليس مرحلة في الفن، بل هو روحه الخفية، وشرطه الإنساني الأسمى.

اليوم العالمي للتأمل


****
المصادر:
– موقع سبق- اليوم السابع
– الإمارات اليوم –
– العربية .نت
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
*******

أخر المقالات

منكم وإليكم