الانتحال البصري… حين تصبح الصورة ضحية عصرها
د. عصام عسيري
في عالم تتزاحم فيه الصور على الشاشات وتتنافس على جذب العين قبل العقل، تبرز ظاهرة الانتحال البصري كإحدى أكثر القضايا حساسية في المشهد الفني المعاصر. فالنسخ لم يعد فعلًا بدائيًا يتم في الظل، بل صار نشاطًا رقميًا سريعًا، يتمكّن من خلاله أي شخص أياً كانت خبرته من إعادة إنتاج عمل فني كامل بضغطة زر، ثم نشره خلال ثوانٍ. وهكذا يتعرض الفنان الحقيقي، في لحظة خاطفة، لخسارة هويته الإبداعية وملكيته الفكرية ونتاج سنوات من العمل.
تعريف مختصر… وصراع طويل:
الانتحال البصري ببساطة هو استخدام عمل فني أو صورة أو تكوين بصري من دون إذن أو نسب لصاحبه وبطريقة توحي بأنه عمل أصيل. يختلف الأمر عن “الاستلهام” ذلك الامتداد الطبيعي لأي مشهد فني، لأن الاستلهام يبني على الفكرة ويحوّلها، بينما الانتحال يكررها أو يحاكيها دون إضافة تُذكر.
هذا التداخل بين «التشابه» و«التطابق» هو ما يجعل الظاهرة معقدة، ويجعل الحكم عليها صعبًا حتى على المتخصصين، خصوصًا في زمن يتداخل فيه الواقعي بالرقمي، وتصبح فيه العلامات الفارقة بين عمل وآخر خيطًا دقيقًا.
صورة بلا حقوق… وفنان بلا أثر:
في جوهر القضية، لا يقف الانتحال البصري عند حدود الاعتداء على العمل الفني، بل يمتد إلى ما هو أعمق: انتزاع هوية. الفنان سواء كان رسامًا، مصورًا، مصممًا أو نحاتًا لا يبيع مجرد صورة، بل يقدّم جزءًا من تجربته وذاكرته ووعيه البصري. لذلك، حين يُنتهك عمله، تتعرض مكانته الإبداعية لضربة مباشرة.
كما تؤثر الظاهرة على سوق الفن، حيث تتشوه القيمة السوقية للأعمال الأصلية في ظل انتشار نسخ متقنة، وتفقد المؤسسات والجمهور القدرة على التمييز بين العمل الأصيل والعمل المستنسخ. ويؤدي ذلك إلى ارتباك عام يشكك في مصداقية الساحة الفنية، ويخلق فوضى يصعب ضبطها.
الجانب القانوني… نصوص بلا أنياب كافية:
قوانين حقوق النشر في معظم الدول تحمي الأعمال البصرية تلقائيًا بمجرد إنتاجها، سواء كانت لوحة أو صورة فوتوغرافية أو تصميمًا رقمياً. لكن الواقع القانوني لا يسير دائمًا بالوضوح نفسه. إذ تتطلب قضايا الانتحال البصري إثبات التشابه الجوهري بين العملين، وإثبات النية، وقابلية العمل الأصلي لحماية قانونية واضحة.
وفي أروقة المحاكم، تعتمد الأحكام غالبًا على:
هل يتشارك العملان في التكوين الأساسي؟
هل قام المنتحل بإيهام الجمهور بالأصالة؟
وهل يوجد «إبداع تحويلي» يمنح العمل الجديد استقلاليته؟
ورغم وجود سوابق قانونية شهيرة في دول الغرب وبلاد العرب، إلا أن القوانين العربية لا تزال في حاجة إلى تحديثات تدرك تعقيدات البيئة الرقمية، وتستوعب أساليب الانتحال الحديثة، لا سيما الانتحال المدعوم بالذكاء الاصطناعي.
أشكال الانتحال… من المحاكاة إلى الذكاء الاصطناعي
لم يعد الانتحال محصورًا في النسخ المباشر، بل أصبح يأخذ صورًا متعددة، من أبرزها:
- نسخ التكوين
إعادة بناء المشهد ذاته: الإضاءة، زاوية التصوير، ترتيب العناصر… بحيث يبدو العمل الجديد نسخة صامتة من الأصل.
- الاستيلاء على الأسلوب
حيث يتبنى الفنان أسلوبًا بصريًا متفردًا لفنان آخر تعب عليه عقود من المحاولات والتجريب والتطوير، ويعيد إنتاجه كما هو دون تطوير أو إضافة.
- الاقتباس الدعائي التجاري
وهو أخطرها، لأن الصورة المنسوخة تُستخدم غالبًا لأغراض ربحية، مما يضاعف الضرر على المبدع الأصلي.
- انتحال الذكاء الاصطناعي
أحدث وأعقد أشكال الانتحال.
حيث تنتج بعض نماذج الذكاء الاصطناعي صورًا تحاكي بدقة أسلوب فنانين بعينهم، أو تستنسخ تراكيب بصرية من أعمالهم بعد «التدريب» عليها دون إذن.
وهو ما يطرح سؤالًا ثقافيًا جديدًا:
هل الذكاء الاصطناعي مبدع… أم مجرد آلة نسخ واسعة الحيلة؟
- التلاعب الرقمي المركّب
عبر دمج عناصر من عدة صور من دون الإشارة إلى أصحابها، ثم تقديمها كعمل مستقل.
وهو نوع ينتشر بكثافة في الإعلانات والمحتوى التجاري.
لماذا ينتشر الانتحال بصمت؟
للظاهرة أسباب كثيرة، أهمها:
سهولة الحصول على الصور الرقمية.
توافر برامج التحرير القوية المتاحة للجميع.
ضعف المعرفة بحقوق الملكية الفكرية.
ضغط العمل السريع في مجالي التصميم والإعلان.
غياب محاسبة حقيقية أو متابعة من الجهات المختصة.
إضافة إلى ذلك، فإن المنصات الرقمية -رغم سهولة النشر- تُعد بيئة خصبة لانتشار النسخ، حيث يتداول المستخدمون الصور بسرعة تفوق قدرة الفنان على تتبع أعماله أو حمايتها.
تقنيات الكشف… سلاح جديد في يد الفنان:
لحسن الحظ، لم يقف الفنانون مكتوفي الأيدي. فقد ظهرت خلال السنوات الأخيرة أدوات وتقنيات تسهّل كشف الانتحال بسرعة:
البحث العكسي عن الصور:
تحليل السمات البصرية: مقارنة الألوان، الحواف، التكوينات
كشف التلاعب الرقمي
تحليل بيانات EXIF للصورة الأصلية
منصات علمية تكشف تكرار الصور في الأبحاث
وباتت كثير من المؤسسات الفنية تعتمد على أدوات الكشف هذه قبل قبول أي عمل في مسابقات أو معارض، مما خلق دائرة حماية جديدة قلّلت ولو جزئيًا من حجم المشكلة.
بين الاستلهام والسرقة… فارق صغير لكنه جوهري:
ليس كل تشابه بصري انتحالًا. فالفن قائم بطبيعته على الحوار بين الأعمال، وعلى تراكم الأشكال والأفكار عبر التاريخ. لكن الاستلهام الحقيقي يبني ولا يقلّد، يضيف ولا يكرر، يعيد كتابة الفكرة بلغة جديدة.
أما الانتحال فهو يقدّم العمل نفسه مجردًا من سياقه وأسئلته، ويُخفي أثر صاحبه الأصلي، فلا يترك إلا قناعًا مزيفًا من «الأصالة».
الفرق بينهما إذن هو قيمة الإضافة التي يقدمها العمل الجديد، ودرجة الأمانة والإعلان عن المصادر.
كيف يحمي الفنان نفسه؟
هناك خطوات عملية ومباشرة يمكن لأي فنان اتخاذها:
- توثيق مراحل العمل بالصورة أو الفيديو.
- استخدام علامات مائية خفيفة عند نشر الأعمال على الإنترنت.
- نشر صور منخفضة الدقة بدل الأصلية.
- تسجيل الأعمال لدى جهات حماية الملكية الفكرية أو منصات التوثيق الرقمية.
- الاحتفاظ بالمسودات والاسكتشات باعتبارها «الأثر الأصلي» للعمل.
هذه الخطوات لا تمنع الانتحال تمامًا، لكنها تسهّل إثبات الملكية عند الحاجة، وتؤسس لسلوك مهني يحمي الفنان على المدى الطويل.
خاتمة… الصورة ليست مجرد «ملف»
في النهاية، الانتحال البصري ليس مشكلة تقنية بقدر ما هو قضية ثقافية تمس هوية الفنان وحقه في الاعتراف. فالصورة ليست مجرد ملف رقمي يمكن نسخه، بل هي شفرة إبداعية تحمل في طياتها رؤية صاحبها وعلاقته بالعالم.
ولذلك، فإن مواجهة الانتحال تبدأ من نشر الوعي والاحتفاء بالأصالة وتشجيع الفنانين على بناء لغاتهم الخاصة، بالتوازي مع تحديث الأنظمة والقوانين، وتعزيز دور المؤسسات في حماية الأعمال.
فالصور رغم هشاشتها الرقمية تظل واحدة من أقوى اللغات الإنسانية. وحمايتها ليست دفاعًا عن حق فردي فقط، بل دفاعًا عن ذائقة وثقافة وإبداع جماعي يشكل وجدان المجتمعات.


