بين صمت “الآفاقية” وصخب “التعويذة”: جدلية “المحو” و”التكديس” في النص البصري
د. عصام عسيري
في البدء، لم يكن الفن التشكيلي السعودي يبحث عن “صورة” بقدر ما كان يبحث عن “أبجدية”. وإذا كانت السيميائية البصرية (Visual Semiotics) هي العلم الذي يدرس العلامات والدلالات وكيفية إنتاج المعنى داخل العمل الفني، فإننا أمام “رائدين” بصريين أسسا لغتين مختلفتين لقراءة المكان السعودي: محمد السليم الذي حول الصحراء إلى “خط موسيقي” لانهائي التموّج، وعبدالحليم الرضوي الذي حول المدينة إلى “متحف رموز” مزدحم بالحياة.
هذا المقال يحاول تفكيك “الشفرة الوراثية” لأعمال هذين الرائدين، لا بوصفها لوحات تزيينية، بل كنصوص بصرية تحمل فلسفة “العدم والوجود”، و”الصمت والضجيج” ومحمولات أخرى.
أولاً: محمد السليم.. سيميائية “السراب” وانحناءة الأفق
في تجربة السليم، وتحديداً في أسلوبه الذي أطلق عليه “الآفاقية” (Horizonism)، نحن أمام عملية سيميائية معقدة تعتمد على “الاختزال” (Reduction). السليم لا يرسم الصحراء، بل يرسم “فكرة” الصحراء.
- العلامة “المنحنية”: سيميائية الأنوثة والامتداد العنصر السيميائي الأبرز عند السليم هو “الخط المنحني” المتكرر. هذا الخط ليس مجرد تمثيل للكثبان الرملية؛ إنه “دال” (Signifier) مفتوح الاحتمالات. تارة يتحول إلى جسد امرأة، وتارة إلى نوتة موسيقية، وتارة إلى تموجات حرارية (سراب). سيميائياً، الخط المنحني عند السليم يرفض “الزوايا الحادة”؛ فالصحراء لا تعرف الانكسار الحاد، بل تعرف التماهي واللين. هذا الانحناء هو رمز لـ “اللانهاية” و”الاستمرار”، وهو يعكس فلسفة صوفية ترى الكون ككتلة واحدة متناغمة.
- اللون “الترابي المضيء”: دلالة الظمأ والروح يستخدم السليم لوحة الألوان (Palette) محدودة جداً: الكروماتية البيج، الأزرق السماوي الباهت، والرماديات الملونة. في السيميائية، هذا “التقشف اللوني” هو علامة على “الزهد”. السليم يريد تجريد العين من بهرجة التفاصيل للوصول إلى الجوهر. اللون هنا يمثل حالة “السراب”، تلك المنطقة الضبابية بين الحقيقة والخيال، بين الأرض والسماء. إنه لون “الصمت” المطبق الذي يلف الصحراء.
- التكوين: سيميائية “التلاشي” في لوحات السليم، لا توجد نقطة ارتكاز مركزية ثقيلة؛ العين تنساب مع الخطوط حتى تخرج من إطار اللوحة. هذا التكوين الأفقي المفتوح يرسل رسالة سيميائية مفادها: “اللوحة ليست سوى نافذة صغيرة على كون لا ينتهي”.
ثانياً: عبدالحليم الرضوي.. سيميائية “التعويذة” والزحام المقدس
على النقيض تماماً، يأتي الرضوي بأسلوب يمكن وصفه بـ “التكديس الرمزي”. لوحته ليست صمتاً، بل هي “سوق عكاظ” من الألوان والأشكال. الرضوي لا يختزل، بل يضيف.
- “الدائرة” و”الهلال”: سيميائية الاكتمال والقداسة تعج أعمال الرضوي بالأشكال الدائرية والأهلّة. سيميائياً، الدائرة هي “الدال” الأقوى في أعماله، وهي تحيل إلى “الطواف” حول الكعبة، وإلى رقصات الفلكلور (المزمار)، وإلى الشمس والقمر. الدائرة عند الرضوي هي رمز “الوحدة” و”الحركة السرمدية”. إنها تحمي اللوحة من التفكك، وتعمل كـ “تعويذة” بصرية تحفظ الهوية من التلاشي أمام الحداثة. أما الهلال، فهو التوقيع الإسلامي الصريح الذي يربط الفن بالسماء.
- الحمام والبيوت: أيقونات الذاكرة الشعبية يستخدم الرضوي مفردات بصرية ثابتة (الحمامة، البيت الشعبي، الزخارف الشعبية). هذه العناصر ليست مجرد رسومات، بل هي “أيقونات” (Icons) ثقافية. الحمامة هي “السلام” و”الروح المحلقة”، والبيت الشعبي هو “الجذر”. تراكم هذه الرموز فوق بعضها يخلق ما يسمى في السيميائية بـ “النص الكثيف” (Thick Text). اللوحة تصبح وثيقة أنثروبولوجية تحكي قصة المجتمع، العادات، والتقاليد في مساحة واحدة مزدحمة.
- اللون الصريح: دلالة الاحتفال يستخدم الرضوي ألواناً أصلية قوية، مشبعة، ومتضادة (الأحمر، الأخضر، الأصفر ، الأزرق الصريح). سيميائية اللون هنا هي “الفرح” و”الحياة”. إنها تعكس صخب المدن الحديثة، ألوان الملابس التقليدية، وزخارف السجاد، السدو والأزياء الشعبية. اللون عند الرضوي “يصرخ” بوجوده، معلناً الانتصار على الفراغ.
ثالثاً: المقاربة النقدية.. جدلية الفراغ والامتلاء
حين نضع السليم والرضوي في ميزان النقد السيميائي، تتكشف لنا ثنائية مذهلة تحكم العقل البصري السعودي:
- المحو (السليم) مقابل التدوين (الرضوي):
محمد السليم يمارس عملية “محو”. إنه يزيل التفاصيل (الأشجار، البشر، البيوت) ليبقي على “الجوهر” (الخط والأفق). سيميائيته هي سيميائية “الغياب” الذي يحرض الخيال.
عبدالحليم الرضوي يمارس عملية “تدوين”. إنه يخشى أن تسقط ذاكرة الناس، فيقوم بتكديس كل الرموز في اللوحة. سيميائيته هي سيميائية “الحضور” الطاغي.
- الروحاني (المجرد) مقابل الاجتماعي (المشخص):
علامات السليم تحيلك إلى السماء، إلى التأمل، إلى الوحدة الفردية أمام عظمة الكون. (لوحة للتعبد الصامت).
علامات الرضوي تحيلك إلى الأرض، إلى السوق، إلى المهرجان، إلى الجماعة البشرية. (لوحة للاحتفال الجماعي).
- هندسة السراب مقابل هندسة الفسيفساء:
بناء اللوحة عند السليم “انسيابي” (Fluid)، يشبه حركة الريح.
بناء اللوحة عند الرضوي “تجميعي” (Mosaic)، يشبه تركيب قطع الزجاج المعشق أو الأحجار، حيث كل جزء له حدوده الواضحة.
في النهاية هما جناحان لطائر واحد، إن السيميائية البصرية لروّاد الفن السعودي لا تكتمل إلا بجمع هذين النقيضين. محمد السليم هو “الصوت الداخلي” للجزيرة العربية، صوت الصحراء والمدى والروحانية المتجردة. وعبدالحليم الرضوي هو “الصوت الخارجي”، صوت المدينة، التراث المادي، والحراك الاجتماعي.
الأول كتب قصيدة “هايكو” بصرية مكثفة وموجزة عن الأفق وعواطف جياشة ومعانٍ عظيمة، والثاني كتب “ملحمة” بصرية طويلة عن ذكريات الإنسان وجماليات المكان. ومن بين “سراب” السليم و”رموز” الرضوي، تشكلت الهوية البصرية السعودية الحديثة، متأرجحة ببراعة بين التجريد الروحاني الرمزي.
***
المصادر:
– موقع البيان
– الجزيرة+ مواقع إلكترونية
– العربي الجديد
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير الإلكترونية.
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
********


