قصة الطلاق الملكي… عندما اهتزت مدينة أوغاريت.. و باحت الواحها الطينية وأختامها بأسرار الملوك ..
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
ها هي الحكاية تعود من بين شقوق الفخار… تخرج من صمت أكثر من ثلاثة آلاف عام محمولةً على لوح من الفخار حمل بين حروفه ما لا تحمله جدران القصور من همس وأسرار..
رقيمٌ واحد، لكنه فتح باباً واسعاً على عالمٍ من النزاعات الملكية والطقوس القانونية وموازين القوى بين أوغاريت وعمورو وحاتي. وكأننا أمام قصة لا يكتبها بشر فقط بل تكتبها الآلهة نفسها بحبر القدر.
في صيف عام 1975، وبينما كانت بعثة التنقيب الأثري تزيح بعناية غبار القرن الثالث عشر قبل الميلاد.. ظهر اللوح ذو الرقم:”RS 1975.124-34″
كان مكسواً بطبقة رقيقة من التراب.. لكنها لم تستطع أن تخفي الخاتم المطبوع في وسطه… خاتم الملك الحثي “تودخاليا”. وما إن انتُزِع اللوح من مكانه حتى أدرك الباحثون أنهم أمام وثيقة غير عادية وثيقة تمس قلب القصر الملكي في أوغاريت وتروي واحدة من أكثر الحوادث توتراً في تاريخها السياسي.
كان الملك الأوغاريتي عميشتمرو الثاني قد اتخذ لنفسه زوجة من بيت عظيم الشأن: ابنة “بنتيشينا” ملك عمورو. زواج سياسي كما اعتادت الممالك القديمة يُقرّب المسافات ويشدّ التحالفات ويُطَمْئِن الحدود.
لكن خلف جدران القصر لم يكن كل شيء كما يبدو على الألواح الرسمية…
تشير الوثيقة إلى أن الزوجة الملكية المعروفة باسم “بت رابيتي” قد ارتكبت إثماً بحق زوجها وبحق حماتها الملكة الشهيرة “آخت ملك” تلك التي عُرفت بحزمها ونفوذها الطاغي في البلاط الأوغاريتي. كان خلافٌ عائليّ قد اشتعل ثم أخذ يتسع حتى خرج عن نطاق القصر الملكي
كانت الأم الملكة في تلك الأيام بعيدة عن القصر الصيفي الذي يقيم فيه ابنها فلما بلغها أمر النزاع اتجهت كما تذكر الوثيقة نحو المجلس الشعبي مجلس الشعب الأوغاريتي لتضعه في صورة ما يجري. فالخلاف لم يعد شأناً منزلياً بل أصبح واقعاً يمس العرش والتحالفات والعهد السياسي نفسه.
عندما نقرأ السطور الممهورة بخاتم الملك الحثي نستشعر نبرة القرار النهائي:
“إن عميشتمرو ملك أوغاريت اتخذ من “ابنة بنتيشينا” زوجة له…
وهي لم تضمر له إلا السوء والشر.
لذلك فقد طردها… وإلى الأبد.”
كلمات لا تترك موضعاً للعودة أو المساومة.
وما يزيد من وقعها أنها مسجلة بختم “تودخاليا” نفسه الملك الأكبر لحاتي، الذي كان يُعد المرجعية السياسية الأعلى بين الممالك الصغيرة آنذاك..
الوثيقة لا تكتفي بتوثيق الطلاق بل تتوسع في الأمور التي كانت تُعدّ في أوغاريت جوهرية:
إعادة المهر وفق النظام المتّبع.
تحديد مصير ولاية العهد بحيث لا يكون لأبناء الملكة المطلّقة أي مطالبة بالعرش إذا رافقوا أمّهم إلى عمورو.
إسقاط حق الادّعاء عن الملكة المطرودة فلا شكوى ولا دعوى أمام ملك أوغاريت، ولا حتى أمام ملوك حاتي.
بل يؤكد النص أن الملك سيضع هذا اللوح أمامها إن حاولت الاعتراض… كأن اللوح نفسه أصبح شاهداً لا يمكن تكذيبه.
من المؤثر أن الوثيقة تُشير إلى أن الزوجة المطلّقة كانت في موطنها عمورو ساعة صدور الوثيقة، بينما كان الملك في قصره الصيفي.
امرأة بين وطنين، لكن لا وطن لها بالفعل.
سقطت مكانتها في أوغاريت وفقدت حقوقها هناك، بينما في عمورو ستعود زوجةً مرفوضة وخاسرة للتحالف الملكي.
هكذا تسجّل هذه الوثيقة واحدة من أوضح حالات الطلاق الملكي في الشرق الأدنى القديم بكل تبعاتها القانونية والاجتماعية والسياسية لتكشف لنا جانباً كان مجهولاً من الحياة اليومية في القصور الملكية.
إن قراءة هذا اللوح الفخاري ليست مجرد سرد لمشكلة عائلية بل نافذة على:
القيم الاجتماعية التي حكمت علاقة الزوجين والنساء بالعرش.
البنية القانونية التي كانت تنظّم الزواج والطلاق والمهور والورثة.
الإدارة العليا للعلاقة بين أوغاريت والممالك المحيطة.
الرموز الدينية والأختام التي تُظهر أي الآلهة شُهدت على القرار.
كل ذلك على لوح فخاري صغير… لكنه يحمل روح أوغاريت ذاتها تلك المدينة التي لا تزال حتى الآن تُدهشنا بأرشيفها وذاكرتها ورائحة ترابها.
وهكذا حين نضع هذا اللوح الفخاري بين أيدينا نشعر كأننا نسمع صدى خطوات الملك “عميشتمرو” وهو يمرّ في أروقة قصره وصوت امه الملكة “آخت ملك” وهي تخاطب المجلس الشعبي وهمس النسوة في القصر عن مصير بت رابيتي ورجفة المستشارين وهم يقرأون ختم تودخاليا على القرار.
إنها أوغاريت… التي كلما نبشنا طبقة في أرضها خرج إلينا زمنٌ كامل يروي حكايته.
عاشق أوغاريت … غسّان القيّم..


