كتبت الدكتور:عصام عسيري. “نصوص اللون” عند عبدالله حماس وطه صبان.بين سطوة الجبال ومرايا الأمواج.

بين سطوة الجبال ومرايا الأمواج: “نصوص اللون” عند عبدالله حماس وطه صبان

د. عصام عسيري

في البدء، لم يكن اللون في اللوحة التشكيلية مجرد صباغ كيميائي يكسو سطح القماش، ولم يكن الضوء مجرد ظاهرة فيزيائية تخضع لقوانين الانكسار والإبصار. في عرف الفلسفة الجمالية، ومن منظور “سيميائية الفنون” (Art Semiotics)، يتحول اللون إلى “نص” كامل، وشفرة ثقافية معقدة، وعلامة لغوية بصرية تمتلك سلطة التعبير عما تعجز عنه وصف الكلمات والترجمة. إن الفنان حين يختار لوناً، فهو يختار “موقفاً” من الوجود، ومن الذاكرة، ومن الهوية.

في المشهد التشكيلي السعودي، تبرز تجربتان تمثلان قطبين جماليين متباينين ومتكاملين في آن واحد بحكم الرفقة المتدة لنصف قرن، تشكلان معاً “سيمفونية المكان السعودي”: تجربة الفنان عبدالله حماس Abdullah Hammas ، حيث اللون “عمارة” ويقين، مستمداً من شموخ جبال عسير وعموم الحجاز والجزيرة العربية. وتجربة الفنان طه صبان Taha Alsabban ، حيث اللون “حالة” وسيولة، مستمداً من رطوبة جدة وسراحل البحر الأحمر والخليج وهدير أمواج بحارها. في هذا المقال، نحاول تفكيك “الدال والمدلول” في بِلتة “مَلوَن” كل منهما، استناداً إلى نماذج بصرية دالة من أعمالهما.

أولاً: سيميائية اللون.. أبجدية العين الصامتة
قبل الولوج إلى عوالم الفنانين، يجب أن نؤسس للمدخل السيميائي. العلامة اللونية في اللوحة تتجاوز وظيفتها التزيينية لتصبح “إشارة” (Sign) تحيل إلى مخزون ثقافي.

عند حماس: اللون هو “الخارج”؛ الشمس، الحصاد، والجدار الصلب.

عند صبان: اللون هو “الداخل”؛ الرطوبة، الحنين، وظلال الرواشين. نحن هنا أمام حوار بين “فيزياء المكان الجبلي” القاسية والواضحة، وبين “كيمياء المكان البحري” المتفاعلة والمتحولة.

ثانياً: عبدالله حماس.. هندسة الشمس واليقين اللوني
عند تأمل أعمال عبدالله حماس (كما يظهر في اللوحات المرفقة ذات الطابع الهندسي المتراص)، نجد أنفسنا أمام “مهندس” لوني لا يرسم المشهد، بل يبنيه بناءً معماريًا.

  1. سيميائية الأصفر: ذهب السنابل وضوء الظهيرة في اللوحة التي يطغى عليها اللون الأصفر الفاقع، يمارس هذا اللون سلطة مطلقة. سيميائياً، الأصفر هنا ليس لوناً محايداً، بل هو “دال” يحيل فوراً إلى “المدلولات” العميقة في الذاكرة الجنوبية: هو شمس الظهيرة العمودية التي لا تترك مجالاً للظلال الغامضة، وهو لون سنابل القمح وقت الحصاد، وهو بريق الحلي التقليدية. الأصفر عند حماس يعني “الفرح الصاخب” و”الوضوح”. إنه يطرد العتمة، معلناً عن حياة اجتماعية مترابطة لا تعرف العزلة.
  2. الخط الأسود: ترسيم الحدود والهوية ما يميز أعمال حماس هو تلك الخطوط السوداء أو الداكنة التي تؤطر المساحات اللونية. سيميائياً، يعمل هذا الخط كـ “حارس” للمعنى. إنه يمثل “الصرامة” في العمارة الجبلية، ويشير إلى الحدود الواضحة للمدرجات الزراعية التي تحفظ التربة من الانجراف. هذا التحديد الصارم يعكس بنية اجتماعية متماسكة وقوية، حيث كل عنصر (أو فرد) له مكانه المحدد في “البناء” الكلي.
  3. التراكم المعماري: سيميائية “الجماعة” في اللوحة البانورامية، نرى البيوت متراصة فوق بعضها البعض كأنها جسد واحد. سيميائية هذا التشكيل (Composition) تقول إن “الأنا” تذوب في “النحن”. الألوان (البني، المغرة، الأبيض) تتجاور في نسيج واحد، مما يعكس دفء العلاقات الإنسانية في القرى العسيرية. حماس هنا لا يرسم بيوتاً من حجر وطين، بل يرسم “مفهوم الجوار”.

ثالثاً: طه صبان.. سيولة البحر وذاكرة الرواشين
على الضفة الأخرى، تأخذنا ريشة طه صبان إلى مناخ سيميائي مختلف تماماً، حيث البحر هو السيد، والرطوبة هي التي تصيغ الألوان كما في الصور.

  1. سيميائية الأزرق الصافي والملمس الخشن: حديث الرطوبة في أعمال صبان، لا يحضر اللون كمساحة مسطحة (Flat)، بل يأتي مشبعاً بملامس (Textures) وخشونة. سيميائياً، هذا الملمس هو “دال” على “الزمن” و”التعرية”. إنه يحاكي جدران بيوت جدة القديمة التي أكلتها الرطوبة وملح البحر. الأزرق والفيروزي والرمادي المائل للزرقة في لوحاته ليست مجرد ألوان للبحر والسماء، بل هي “الغلاف الجوي” الذي يحيط بالشخوص. إنها تعبير عن حالة “السيولة” التي تميز الحياة في المدن الساحلية، حيث الأشياء أقل حدة وأكثر تداخلاً.
  2. الشخوص والشبكات: سيميائية “الانتظار” و”الصيد” تظهر في لوحات صبان شخوص إنسانية (غالباً نساء أو صيادين) تتداخل مع الخلفية. نلاحظ استخدام الخطوط المتقاطعة التي تشبه “الشبكة” أو “المشربية/الروشان”. سيميائياً، “الروشان” في لوحة صبان ليس عنصراً معمارياً فحسب، بل هو “عين” ترى ولا تُرى. إنه رمز للخصوصية وسط الصخب. أما الشبكة فهي رمز “الرزق” و”القدر”، وهي الخيوط التي تربط الإنسان بالبحر. الشخوص عنده تبدو وكأنها تسبح في فضاء اللوحة، مما يعزز دلالة “الحلم” و”الذاكرة الضبابية”، بعكس شخوص حماس أو بيوته الراسخة.
  3. الألوان الحارة المكبوتة: جمر تحت الرماد بينما ينفجر اللون الأحمر القاني الحار عند حماس، نجده عند صبان يظهر على استحياء أو يكمن خلف الطبقات الباردة. لمسات من الأحمر أو البرتقالي تظهر وسط الأزرق والرمادي، سيميائياً، هي “نبض الحياة” و”الدفء الإنساني” الكامن خلف جدران الصمت والرطوبة. إنها العاطفة التي يغلفها وقار المدينة القديمة.

رابعاً: مقاربة نقدية.. الجبل مقابل البحر
عند وضع اللوحات جنباً إلى جنب (أعمال حماس الهندسية مقابل أعمال صبان التعبيرية)، تتجلى المقارنة السيميائية بوضوح:

  1. الثبات مقابل الحركة:
    حماس (الهواء والجبل): لوحته استاتيكية (Static)، راسخة. الكتل الهندسية توحي بالديمومة والثبات عبر الزمن. السيميائية هنا هي “الخلود”.

صبان (الموج والبحر): لوحته ديناميكية (Dynamic)، فيها حركة الفرشاة واضحة وسريعة. الأشكال تبدو وكأنها تهتز أو تتموج. السيميائية هنا هي “اللحظة الهاربة” و”التحول”.

  1. الوضوح مقابل الغموض:

حماس: يعتمد “الخط” (Line) كأداة رئيسية. كل شيء محدد، واضح، ومسمى. إنها لغة “النثر” المباشر والبليغ.

صبان: يعتمد “اللطخة” (Splash) والطبقات اللونية. الأشياء توحي بمعناها ولا تصرح به. إنها لغة “الشعر” والرمز.

  1. الفراغ والامتلاء:

حماس: يملأ فضاء اللوحة تماماً (Horror Vacui) بزخارف ونقوش مستلهمة من “القَط العسيري”. هذا الاكتظاظ هو احتفال بالحياة.

صبان: يترك مساحات للتنفس، أو يخلق فراغات لونية ضبابية تسمح للمتلقي بالتأمل. الفراغ عنده هو “صمت البحر”.

ختامًا: هويتان لوطن واحد، يقدم لنا كل من عبدالله حماس وطه صبان درساً بليغاً في سيميائية الألوان عند فناني الحجاز والسعودية عموما. الأول يعلمنا أن الهوية يمكن أن تكون “صرحاً” مشيداً من ضوء الشمس وزخارف الأجداد، راسخاً كقمم السروات. والثاني يعلمنا أن الهوية يمكن أن تكون “موالاً” بحرياً بطول البحر الأحمر، مالحاً ومعتقاً، ينساب مع أزقة “البلد” ورواشينها.

إن قراءة أعمال هذين القطبين معاً هي قراءة لخارطة جغرافية الروح السعودية؛ حيث يتجاور “الأصفر الفاقع” القادم من قمم الجنوب، مع “الأزرق العميق” القادم من شواطئ الغرب. كلاهما استخدم اللون كشفرة، وكلاهما نجح في تحويل “المحلي” إلى أيقونة بصرية عالمية، مانحين المتلقي فرصة لأن يسمع بعينيه: صليل الحلي في عسير، وهدير الموج في جدة.

آراؤكم تهمني🌹

أخر المقالات

منكم وإليكم