((أطياف الذاكرة وملحمة اللون في أعمال الدكتور فاخر محمد))
بقلم: اميرة ناجي / فنانة تشكيلية ./ مشاركة: د.عصام عسيري.
يقول الفنان الفرنسي بيير بونار
الفن هو القدرة على رؤية الجمال الذي يمر أمام الآخرين دون أن ينتبهوا له
وهذه الفكرة تنطبق تماما على تجربة فاخر محمد فهو لا ينقل العالم بل يلتقط جوهره الخفي ويعيد تقديمه بهيئة رموز وأشكال تتجاوز ظاهر المشهد وتلامس طبقاته العميقة تلك التي لا ينتبه إليها معظم البشر إلا عندما يوقظها الفن في داخلهم
حين نقف أمام أعمال الدكتور فاخر محمد نشعر أننا لسنا في حضرة لوحات معاصرة بل أمام خرائط روحية لبلاد الرافدين وقد فتحت أعينها من جديد لوحاته تعيد للعالم بناءه من طبقات ذاكرة موغلة في القدم ذاكرة مشبعة بالأسطورة والخرافة والحكايات الأولى التي شكّلت الوعي البصري لهذا المكان منذ آلاف السنين ولهذا تبدو اللوحة مثل صندوق أسرار مليء بالكائنات التي جاءت من زمن آخر لكنها تظهر بلغة حديثة لا تشبه إلا لغة الفنان فاخر نفسه
الشخصيات التي يضعها في فضائه البصري هي ظلال لأبطال قدامى ملوك وكهنة ونساء يحملن ذاكرة الأرض ورجال يشبهون الطين الأول والطيور التي تسبح في فضاء لوحاته تبدو كأنها رسائل بين الأرض والسماء كذلك الأشجار التي تتكرر في أعماله تحمل معنى الاستمرار بينما البيوت الصغيرة المتدرجة تستعيد بنية العمارة الرافدينية بروح خفيفة متجددة الخطوط التي يستخدمها ليست خطوطا معاصرة خالصة وليست خطوطا أثرية صرفة بل هي خطوط تحمل خشونة التاريخ وذكاء الحداثة في آن واحد كأنها آثار أختام أسطوانية تحولت إلى لغة تشكيلية جديدة
أما اللون فهو صوت داخلي في عمل الدكتور فاخر محمد و روح تتنفس داخل اللوحة الألوان تتقاطع وتتراكم ثم تتداخل على نحو يجعل السطح يبدو كأنه طبقات من زمن متراكب زمن الأسطورة يختلط بزمن الذاكرة وزمن الحاضر لتبدو اللوحة كأنها قطعة من تاريخ غير مكتوب تاريخ يطل على المتلقي من خلال بقعة لون أو ظل أو مساحة صامتة البياض في لوحاته ليس فراغا بل عنصر حي يمنح الكائنات فرصة للظهور ويفتح بابا للخيال كي يكمل ما لم يُرسَم
إن استدعاء الموروث الحضاري في أعمال دكتور فاخر محمد هو بنية تكوين مستقرة داخل وعي الفنان ولهذا لا تأتي طقسية ولا تزيينية بل حرة ومتحركة واندماجية الكائنات التي تبدو أسطورية لا تكرر شكلها القديم بل تستعيد روحها ثم تنصهر داخل لغة لونية حديثة تجعل الأسطورة جزءا من اليومي والقديمة جزءا من المعاصر وهذا ما يمنح أعماله تلك الموازنة الدقيقة بين الرمز والتجريد وبين الماضي والحاضر وبين النص البصري والانفعال الشعوري
أسلوب فاخر محمد أسلوب يصعب نسبه إلى مدرسة جاهزة فهو يقف في مساحة الوسط بين التجريد الذي يهرب من الشكل والرمزية التي تسعى إليه لوحته تحمل شذرات سرد لكن من دون حكاية واضحة وتضم أشكالا قد تبدو مألوفة لكنها لا تخضع لقواعد طبيعية إنما لقواعد روحية داخلية ولهذا تشبه لوحاته القصائد المرسومة إذ تمنح المتلقي متعة البحث عن المعنى لا من خلال القراءة المباشرة بل من خلال العبور عبر اللون والكتلة والفراغ
في اللوحة الأولى نرى مشهدا أقرب إلى حلم قديم ملك أو كائن ملكي مستلق طائر يطير فوقه شجرة نخيل ورموز متناثرة حوله كأنها أجزاء من أسطورة تبحث عن نهايتها الألوان هنا كثيفة لكنها شفافة في الوقت نفسه تمنح العين إحساسا بأن هناك قصة لا تُقال بل تُلمح أما في اللوحة الثانية فنحن أمام مدينة كاملة تتحرك داخل السطح امرأة تتوسط المشهد كأنها محور الكون حولها الطيور والأشكال والرموز وكأننا نطل على مدينة بابل وهي تنهض من جديد بينما في اللوحة الثالثة يخف الإيقاع وتبدو العناصر كأنها بقايا حلم امرأة وطائر وشجرة وسفينة كلها تظهر بهدوء يشبه صمت الفجر
تجربة الفنان فاخر محمد تقوم على فهم عميق للبناء البصري وعلى وعي كبير بتاريخ المكان وهو وعي لا يقوده نحو الاستنساخ بل نحو إعادة إنتاج الذاكرة بطريقة تمنحها حياة جديدة وهذا ما يجعل أعماله قريبة من القلب وقابلة للقراءة مهما اختلفت ذائقة المتلقي لأنه يقدم رموزا تُرى وتشعر ولا تحتاج إلى معرفة مسبقة كي تتواصل معها
إن لوحات الدكتور فاخر محمد هي جسور بين زمنين زمن غادر ترك آثاره على جدران المعابد والطين وزمن حاضر يريد أن يفهم ذاته من خلال هذا الإرث العريق لوحاته ليست قراءة للماضي بل إعادة كتابته بطريقة شاعرية تمنح كل رمز فرصة أن يولد من جديد لهذا تبدو كائناته وكأنها خارجة للتو من حكاية قديمة لكنها جاءت كي تعيش معنا الآن هنا في زمن مختلف لكنها تحمل روح المكان الأول
هذه التجربة لا تقف عند حدود الجماليات بل تنفتح على أفق بحثي وفلسفي يجعل اللوحة فضاء للتأمل أكثر مما هي مساحة للرسم ومن خلال هذا المسار يثبت فاخر محمد أن الفن يمكن أن يظل جسرا حيا بين الإنسان ومنابع ذاكرته وأن اللون يمكن أن يكون معجما كاملا للتاريخ إذا وضع في يد فنان يعرف كيف يجعل اللامرئي مرئيا وكيف يجعل الصمت يتكلم

