ما وراء الزخرفة: قراءة سوسيولوجية
د. عصام عسيري
في الوقت الذي تكتظ فيه المكتبات العربية والأجنبية بالمؤلفات التي تتناول الفن الإسلامي من زاوية جمالية بحتة، تركز غالباً على بهاء الزخارف، ودقة الأشكال الهندسية، والتسلسل التاريخي للحقب الإسلامية، يأتي كتاب “سوسيولوجيا الفن الإسلامي” ليقدم مقاربة مغايرة وعميقة، تملأ فراغاً كبيراً في المكتبة العربية.
الكتاب من تأليف الباحث وعالم الاجتماع اللبناني الدكتور فردريك معتوق، وصدر عن منتدى المعارف في بيروت 2017م ضمن “سلسلة اجتماعيات عربية”. لا يكتفي هذا المؤلف بسرد تاريخي للقطع الفنية، بل يغوص بجرأة في البنية الاجتماعية والعقائدية التي أنتجت هذا الفن، محاولاً الإجابة عن السؤال الأصعب: لماذا ظهر الفن الإسلامي بهذا الشكل تحديداً؟ وما هي القوى الاجتماعية والروحية التي شكلته؟
المؤلف ومشروعه المعرفي
لكي نفهم عمق هذا الطرح، لا بد من الإشارة إلى خلفية مؤلفه. فالدكتور فردريك معتوق ليس مؤرخاً للفنون بالمعنى الكلاسيكي، بل هو قامة سوسيولوجية وأكاديمي شغل منصب عميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية. يُعرف معتوق بمشروعه الفكري الساعي لتأصيل “علم اجتماع عربي”، حيث يرفض الاكتفاء باستيراد النظريات الغربية وتطبيقها قسراً على واقعنا، بل يحاول ابتكار أدوات تحليلية نابعة من التراث والواقع العربي، وهو ما يتجلى بوضوح في هذا الكتاب حيث يربط المادة (الفن) بالروح (العقيدة) والمجتمع (الحرفة).
الرؤية الكلية: الجبال لا تُرى إلا من بعيد
يفتتح معتوق كتابه بعنوان لافت للفصل الأول: “الجبال العالية لا تُرى إلا من بعيد”. هذه العتبة النصية تؤسس لمنهج الكتاب؛ فالمؤلف يدعو إلى نظرة بانورامية شاملة للفن الإسلامي، متجاوزاً التقسيمات الجغرافية (من الأندلس إلى الصين) أو الزمنية (أموي، عباسي، عثماني). يرى معتوق أن الفن الإسلامي وحدة متماسكة يربطها خيط ناظم واحد هو “العقيدة التوحيدية” التي صبغت كل منتج فني بصبغتها، بغض النظر عن تنوع البيئات المحلية.
وفي فصوله التأسيسية (“مرتكزات الفن الإسلامي” و”هذا الفن الجوهراني”)، يحلل الكتاب الانتقال الجذري من “التجسيد” إلى “التجريد”. فبسبب عقيدة التوحيد والابتعاد عن مضاهاة خلق الله (التشخيص)، اتجه الفنان المسلم نحو “الجوهر” بدلاً من “المظهر”. أصبح الفن بحثاً ابستمولوجيًا عن الجمال المطلق واللانهاية، لا محاكاة للواقع الفاني، مما يفسر سيادة الزخرفة الهندسية والنباتية.
سوسيولوجيا “الصانع” والمجتمع
لعل الإضافة الأبرز والأكثر قيمة في هذا الكتاب تكمن في محوره الاجتماعي، وتحديداً في الفصلين الرابع والخامس: “التوأمة بين الفن والمجتمع” و”أخلاقيات أصحاب الصنائع”.
هنا، يفكك معتوق النظرة النخبوية للفن. يوضح أن الفن في الحضارة الإسلامية لم يكن “لوحة معلقة في قصر” أو قطعة متحفية معزولة، بل كان فناً وظيفياً يومياً. الجمال كان حاضراً في إبريق الوضوء، وفي سجاد الصلاة، وفي أبواب المنازل، وفي أدوات الطعام. لقد عاش المجتمع مع فنه وتنفسه يومياً.
كما يعيد الكتاب الاعتبار لـ “الحرفي” (الصانع)، موضحاً نظام “الطوائف الحرفية” والفتوة المهنبة. لم يكن الحرفي مجرد عامل يدوي، بل كان يمتلك أخلاقية مهنية ذات بعد صوفي؛ فالعمل عبادة، وإتقان الصنعة واجب ديني، مما خلق دمجاً فريداً بين “التقنية” و”الروحانية”. الفنان هنا مجهول الاسم غالباً، لأنه ذاب في الجماعة وفي الهدف الأسمى للفن، وهو ذكر الله وخدمة المجتمع.
تجليات الجمال: من الأرابيسك إلى العمران
ينتقل الكتاب في فصوله اللاحقة لتطبيق هذه الرؤية السوسيولوجية على العناصر الفنية:
الأرابيسك (ما أجمل الأرابيسك!): يقرأه المؤلف ليس كتزيين فائض، بل كتعبير بصري عن “اللانهاية” والاستمرار، وعن النظام الكوني المحكم.
العمارة (عمارة العمران): يربط بين تخطيط المدن الإسلامية وقيم المجتمع مثل الخصوصية (في البيوت)، والتكافل، ومركزية المسجد، وكيف أن العمارة كانت تخدم “الستر” والعلاقات الاجتماعية.
الخط العربي (الخط… هذا الناطق الصامت): يخصص له فصلاً بديعاً، معتبراً إياه أيقونة الفن الإسلامي الأولى. فالخط هو الوعاء الذي حمل “كلام الله” المقدس، فتحول الحرف من وسيلة تدوين إلى عمل فني بصري يملأ الفراغ المعماري بالقداسة، معوضاً غياب الصور والتماثيل.
ختامًا، الدين والمجتمع والفن
يختتم فريدريك معتوق دراسته في الفصل العاشر “الدين والمجتمع والفن” بتركيب نهائي يؤكد فيه استحالة فصل هذه العناصر الثلاثة. الفن الإسلامي هو نتاج تفاعل حيوي بين عقيدة وجهت، ومجتمع احترف، وفنان أبدع.
إن كتاب “سوسيولوجيا الفن الإسلامي” وثيقة هامة ومرجع ضروري لكل باحث وفنان وناقد. إنه يحرر تراثنا الفني من قاعات المتاحف الباردة ومن النظرة الاستشراقية القاصرة، ليعيده إلى سياقه الإنساني والاجتماعي الحي. يعلمنا هذا الكتاب أن خلف كل نقش وخط ومئذنة، تقبع فلسفة حياة كاملة، ويد صانع كانت ترى في الجمال طريقاً إلى الله.


