قراءتي في كتاب ( السينما المستقلة نظرة على العالمية والعربية والسعودية) للناقد السعودي والصديق المحترم خالد ربيع السيد
يُعد كتاب (السينما المستقلة) للباحث والناقد السعودي خالد ربيع السيد محاولة رصينة لسد فجوة واضحة في الكتابة السينمائية العربية الخاصة بالسينما المستقلّة، هذه الفجوة تتمثّل بالتباين بين الطابع الصحافي العام الذي يقتصر على الانطباعات والأخبار، والكتابة النقدية الأكاديمية المعمقة، المعتمدة على مناهج تحليلية دقيقة للأعمال السينمائية. مع محدودية الدراسات المنهجية المنظمة مقارنة بالكتابة السينمائية في السياقات العالمية. يقدم الكتاب دراسة تاريخية للسينما المستقلة، مستندة إلى مشاهدة دقيقة ورصد مباشر للأعمال، مع قراءات نقدية تراعي التجربة الجمالية والفكرية، يعرض الكتاب السينما المستقلة من خلال ثراء التجارب الجمالية والفكرية المتنوعة جامعًا بين السياقات العالمية والعربية، مع تغطية تجارب مختلفة في الخليج والسعودية ضمن إطار تحليلي يوازن بين العمق الفني والقيمة الفكرية للأعمال.
يعتمد الكتاب على تراكم معرفي ومُشاهدة دقيقة للأعمال السينمائية، مع انحياز واضح للتجربة الجمالية كنقطة انطلاق للفهم النقدي. يكشف هذا النهج عن رؤية في النقد السينمائي تنطلق من فعل القراءة والتأويل بعيدا عن ممارسات التقويم المباشر وفق معايير ثابتة، ما يجعل العمل ملتقى بين الطموح الأكاديمي والكتابة الحرة، تتيح هذه الطريقة إبراز حدود الكتاب من حيث الإطار المفاهيمي والأدوات التحليلية، وفي الوقت ذاته تسلط الضوء على عمق إسهامه النقدي في دراسة السينما المستقلة.
يمتد الكتاب عبر مسار تاريخي متشعب للسينما المستقلة، جامعًا بين جغرافيات وتجارب وسياقات متنوعة، مع حرص على بناء صورة شاملة للمشهد العالمي والعربي. يحمل الطابع الموسوعي للكتاب قدرًا من التوتر البنيوي، إذ يثير الكتاب تساؤلات حول العلاقة بين الاتساع والعمق، وفاعلية تحويل الكم الهائل من الأمثلة إلى بنية تحليلية متماسكة ومدروسة تربطها بأفكار نقدية واضحة، بعيدًا عن الاكتفاء بسرد متتابع أو تعداد عشوائي للأعمال، مستعرضاً مفاهيم أساسية في الخطاب السينمائي، مثل التجريب وسينما المؤلف ومفهوم “الخطأ” الفني، مع إعادة صياغتها خارج ثنائيات الصواب والخطأ أو الاحتراف والهشاشة. كما يميّز ربيع بين التجارب السينمائية التي تقوم على رؤية جمالية مستقلة تمتلك عمقًا فنيًا حقيقيًا، والتجارب التي تُستغل فيها فكرة الاستقلالية كذريعة لإنتاج أعمال محدودة العمق، مؤكّدًا موقفًا نقديًا متوازنًا يربط بين القيمة الفنية والفكرية لكل عمل سينمائي.
على الصعيد العربي، يقدم الكتاب قراءة واسعة لتجارب السينما المستقلة، مركزًا بشكل خاص على السينما في الخليج والسعودية، مشيرًا إلى ارتباط هذه التجارب بالتحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى، ودمجها ضمن سياق تاريخي عالمي بعيدًا عن التعامل معها كحالات معزولة، حيث يقدّم إطارًا مقارنًا يحترم الخصوصيات السياقية ويطرح تساؤلات حول حدود المقارنة وفاعليتها التحليلية. دراستي التحليلية لهذا الكتاب تنطلق من سبع فرضيات.
1- تأطير مفهوم السينما المستقلة في إطار هش
يقدّم كتاب “السينما المستقلة” نصًا إشكاليًا يستكشف قابلية مفهوم “الاستقلال” للتداول ضمن فضاءات ثقافية غير مستقرّة لم تتبلور بنيتها السينمائية بعد بشكل كامل وناضج. فالكتاب لا يقدّم تعريفًا معياريًا صارما للسينما المستقلة، إذ أنّه محاولة نقدية تسعى لتفكيك مفهوم ملتبس أكثر من كونه سعيًا لتثبيته أو تقنينه. فالمؤلف يبني فهمه للمفهوم عبر تتبّع تاريخي وجمالي لتجارب متباينة، ويكشف من خلال تراكم الأمثلة والتحولات عن هشاشة المفهوم عند نقله من سياقه الغربي المرجعي إلى السياقين العربي عامة والسعودي خاصة، يُبرز الكتاب التباين بين الفهم الغربي المرجعي للمفهوم والواقع المحلي، موضحًا كيف تتفاعل الجوانب الجمالية مع محددات اجتماعية ومؤسساتية واقتصادية لم تكن جزءًا من التكوين التاريخي الأصلي لهذا المفهوم.
يقدّم خالد ربيع في الفصل الأول من كتابه خلفية تاريخية للسينما المستقلة في الغرب، مستعرضا الموجة الفرنسية الجديدة وأثرها على العالم وما تفرّع عنها، الموجة الفرنسية التي أسسها مخرجون مثل فرانسوا تروفو وجان لوك غودار، وسينما المؤلف التي صاغ مصطلحها المخرج والمنظر الفرنسي، “ألكسندر استروك” (مولد سينما طليعية جديدة.. الكاميرا القلم) كنموذج للاعتماد على الرؤية الشخصية للمخرج كعنصر أساس في الاستقلال الفني. كما يتناول تجربة السينما الأمريكية المستقلة مؤكدا أن السينما المستقلة موجودة منذ فجر السينما وصولا إلى عقدها الذهبي في تسعينيات القرن العشرين، التي جسدت الاستقلالية من خلال الحرية الأسلوبية والموضوعية الاجتماعية. كذلك يستحضر الكتاب حركة دوغما 95 الدنماركية، التي شكّلت تجربة صارمة في تبني مبادئ الإنتاج البسيط والتجريب الفني، لتوضيح حدود الاستقلالية في إطار أيديولوجي واضح ومحدد.
يقدّم الكتاب خلفية تسمح لنا بفهم أنّ الاستقلال مسار جمالي وفكري يقوم على كسر السائد والمغامرة الشكلية.
عند انتقال المرجعيات الغربية للسينما المستقلة إلى السياق العربي، يوضح الكتاب أن مفهوم الاستقلالية في الإنتاج الفني لم يتبنَّ تعريفًا معياريًا واحدًا، بل أصبح ممارسة تفاوضية تتشكل داخل شبكة من الشروط الاجتماعية والمؤسساتية والاقتصادية الخاصة بكل بيئة ثقافية. وفي تتبعه التاريخي في السياق العربي، يبيّن المؤلف أن إرهاصات السينما المستقلة بدأت في مصر منذ أواخر الستينيات مع ظهور جماعة السينما الجديدة، التي أنتجت أعمالًا مثل أغنية على الممر (1972) والضلال في الجانب الآخر (1974) لشباب سينمائيين مثل علي عبد الخالق وغالب شعت. وقد قام مخرجون من الجيل اللاحق مثل شادي عبد السلام، يوسف شاهين، يسري نصر الله، خيري بشارة، ورضوان الكاشف بتوسيع التجربة المصرية من خلال أفلام تجمع بين الهم الاجتماعي والتجريب الجمالي، مما يجعل هذه المرحلة نموذجًا مبكرًا لفهم كيف تتعايش روح الاستقلال مع البنية الإنتاجية المحلية.
ثم ينتقل الكتاب إلى تجربة السينما البديلة في دمشق، موضحًا كيف أن السينما المستقلة هناك تطورت من خلال مبادرات ومجموعات فنية صغيرة تعمل خارج الإطار الرسمي، مع التركيز على إنتاج أعمال قصيرة ووثائقية تعكس قضايا اجتماعية وثقافية محلية. إن هذه السينما تقوم على التفاوض المستمر بين الإمكانيات المتاحة والرغبة في التعبير الفني، ما يجعل الاستقلالية ممارسة جدلية تحددها الظروف المحلية أكثر من كونها حالة ثابتة.
في بيئات أخرى من العالم العربي، تتجلى هذه الديناميكية بوضوح: فغالبًا ما تؤثر شروط التمويل والهيكلة المؤسسية المحدودة على مستوى الاستقلالية المتحقق في الإنتاج. فالاستقلال الفني في هذه السياقات لا يقتصر على كسر القواعد الجمالية وحده، بل يشتمل أيضًا على إدارة العلاقة مع الدعم المالي، إمكانيات الإنتاج المتاحة، وآليات التوزيع والتلقي. ولهذا السبب، يقدّم المؤلف أمثلة من السينما الخليجية، مثل أعمال رشيد البلوشي وخالد بن حمدان، التي تمزج بين التجريب الفني والإمكانات المالية المتاحة، لتؤكد أن الاستقلالية في العالم العربي ممارسة جدلية تقف عند تقاطع المرجعية العالمية للسينما المستقلة – التي توفر أفقًا نقديًا ومعياريًا – والخصوصية المحلية التي تفرض حدودًا وظروفًا مختلفة على المخرجين وصنّاع الأفلام.
خالد ربيع لا يسعى إلى تقديم إجابات نهائية بشأن المفهوم، إذ يتركه في حالة مرونة مقصودة، تجعلنا ندرك أن هشاشته ناتجة عن شروط الإنتاج والتلقي، وليست قصور نظري.
قراءتي لا تفترض أن المؤلف يتبنّى صراحة مفهوم الهشاشة معتبرا إياه أطروحة نظرية، لأنّنا نستنتجه من طبيعة المقاربات والأمثلة التي يراكمها الكتاب، ما يجعل الهشاشة آلية تحليلية لفهم طبيعة الاستقلالية في السياقات المتعددة.
2- إشكالية المصطلح
أتناول هذه الفرضية من منطلق السؤال، كيف يُعيد كل سياق ثقافي تعريف الاستقلال الفني وفق خصوصياته المحلية، فتختلف المقاييس الجمالية والمعايير الفنية؟ وهل السينما المستقلة عالمية بمعايير موحدة أم هي ظاهرة ذات أوجه متعددة تتشكل في علاقة ديناميكية بين الثقافة، المجتمع، والابتكار الفردي؟ كيف يتحول المصطلح من تعريف اصطلاحي إلى أداة نقدية مرنة، تسمح بالتأويل والتحليل بحسب الخلفيات الثقافية والجغرافية لصانعي الأفلام؟
يعرض الكتاب مشهدًا عالميًا واسعًا من السينما المستقلة، يبرز أن السينما المستقلة تجربة متعددة الأوجه: تجريبية، اجتماعية، فلسفية، سياسية، ونسوية، فمن الموجة الفرنسية الجديدة التي أسست لكسر القواعد الكلاسيكية للسينما التقليدية وتبلور عنها مفهوم سينما المؤلف، إلى السينما المباشرة التي ركّزت على التصوير العفوي والاستخدام الواقعي للصوت والمكان، وإلى حركة دوغما 95 التي على الرغم من ميثاقها الصارم، تبنت موقفًا آخر من النقاء الفني والصدق التعبيري.
الكتاب لا يكتفي بالنماذج الأوروبية، يتناول إيضًا موجات مثل “مامبلكور” في الولايات المتحدة التي ركزت على الحوار التلقائي والميزانيات الصغيرة، كما يضم تطورات السينما الوثائقية التي حققت حضورًا جماهيريًا وسياسيًا، والسينما النسوية التي تناولت موضوعات مسكوتًا عنها في الإنتاجات السائدة. على المستوى العربي، يعرض النص تجارب من العالم العربي تشمل الجزائر وتونس والمغرب والأردن وفلسطين واليمن والعراق والسودان والخليج، مع أمثلة واضحة على أفلام سعودية مستقلة وتطور السينما السعودية.
هذه التجارب تختلف في شكل التمويل (ذاتي، جزئي، أو مدعوم من صناديق وجهات دعم)؛ وتختلف في علاقتها مع المؤسسات المنتجة والمهرجانات؛ وتباينها في اللغة الجمالية (من تصوير وثائقي واقعي إلى سرد روائي متأمل)، وكذلك في أهدافها – بعضها يتصدّى لقضايا اجتماعية وسياسية، وآخر يركّز على التجربة الإنسانية الفردية. نتيجة هذا الاتساع، يصبح من المستحيل إحالة “السينما المستقلة” إلى تعريف واحد متجانس؛ فالمصطلح هنا يشير إلى مجموعة علاقات وظيفية بين ممارسات متباينة تشترك فقط في كونها خارج منطق الإنتاج السائد، وليس في معيار جمالي أو إنتاجي موحّد.
ومن هنا يمكننا أن نسأل، هل يمكن للسينما المستقلة أن تُقاس بمعايير جمالية موحدة، أم أن الاستقلالية تتشكل دومًا وفق خصوصيات الثقافة والمجتمع والمخرج؟ يظهر ذلك بوضوح في التجربة السعودية المعاصرة، حيث تركز هيفاء المنصور على قضايا المرأة وتمكينها، فتقدم أعمالًا تسلّط الضوء على تحولات اجتماعية وثقافية، بينما يتناول عبد الله آل عياف في فيلم “عايش” الإنسان العادي وصراعاته اليومية، ليكشف عن استقلالية المخرج في اختيار موضوعات تمس الواقع المحلي بعمق. كما يبرز فيلم “رولم” استكشاف الهوية والمكان في جدة، فيسهم في إعادة صياغة تجربة المشاهد وفق رؤية شخصية للمكان والزمان، ما يعكس تنوع المقاربات داخل نفس السياق الجغرافي.
إذا نجد أن السينما المستقلة لا يمكن تحديدها بتعريف اصطلاحي بقدر ما هي أداة نقدية مرنة، تسمح بفهم كل تجربة وفق سياقها المحلي، وتحليل الاختلافات بين الموجات العالمية والمحلية، مع الاحتفاظ بالبعد الإنساني والفكري الذي يشكل الجوهر الحقيقي لهذه السينما. بهذه الطريقة، تتحول الاستقلالية من معيار ثابت إلى شبكة من القراءات الممكنة التي تفكك العلاقة المعقدة بين الثقافة، المجتمع، والابتكار الفردي، وتكشف كيف يعيد كل سياق ثقافي تعريف حرية الفن وفق خصوصياته.
رغم أن خالد ربيع لا يطرح “إشكالية المصطلح” كنقطة نظرية مستقلة، إلا أن منهجه في تناول السينما المستقلة يكشف وعيه النقدي بهذه الإشكالية. يركز الكتاب على الاختلافات الجمالية بين التجارب، ويؤكد على الذائقة كمدخل أساسي للفهم، ويرفض فرض معايير قاطعة للحكم.
في الوقت نفسه، يظهر ميل ضمني لدى ربيع لتقديم الاستقلالية كمعيار للجودة الفنية، ما يجعلها عنصرًا مؤثرًا في تقييم الأعمال داخل الخطاب الضمني للكتاب. هذا التوجه يثير مسألة دقيقة، إذ تُستدعى شروط الإنتاج كجزء من عملية التقييم دون فصل واضح بينها وبين البناء الجمالي للعمل السينمائي.
فالتجربة العربية في السينما المستقلة على رغم أهميتها، تظل مقيدة بإطار مرجعي واحد، ما يؤخر ترسيخ موقع المصطلح النظري داخل السياق العربي.
يسهم الكتاب في توسيع أفق التفكير حول السينما المستقلة، مع الحفاظ على إشكالية المصطلح مفتوحة، مما يجعله مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين بالنقد الفني، ويتيح مساحة للتأمل النقدي العميق في العلاقة بين التجريب الفني والقيود الواقعية للإنتاج والتلقي.
3- أين يقف الناقد؟ متى يتحول الناقد إلى مؤرّخ؟ ومتى يتراجع التحليل لصالح التوثيق؟
يوازن خالد ربيع بحذر بين الرغبة في الشمول والخوف من إصدار أحكام حاسمة. وبين التوثيق والتحليل. الموقف النقدي في كتابه يجمع بين التوثيق والتحليل الفني، مع ميل نسبي إلى الوصف التاريخي والتصنيف العام قبل الانغماس في التحليل التفصيلي للأعمال السينمائية، يظهر النص وعيًا ضمنيًا بهذا التحدي، إذ يسعى ربيع إلى موازنة سرد التطورات التاريخية مع إبراز الخصوصيات الجمالية لكل تجربة، محافظًا على حياد منهجي دون الانزلاق إلى إصدار أحكام مسبقة. هذا الطرح يجعلنا نتساءل: متى يتحول الناقد إلى مؤرخ، ومتى يتراجع التحليل لصالح التوثيق؟ يظهر الكتاب وعيًا ضمنيًا بهذا التحدي، إذ يسعى ربيع إلى موازنة سرد التطورات التاريخية مع إبراز الخصوصيات الجمالية لكل تجربة، يقوم ربيع السيد من موقعه كناقد بتحليل الأعمال الفردية بعمق، عارضا أساليب الإخراج، التجريب الفني، والرمزية السينمائية، موضحًا دوافع وقيود كل تجربة، ويكشف عن البنية الجمالية والفلسفية للأعمال، متجاوزًا التوثيق التاريخي. كما يبرز الكتاب موقفًا أخلاقيًّا وجماليًّا واضحًا، يتمثل في تقدير السينما المستقلة حيث يعتبرها ربيع فضاء للحرية التعبيرية والبحث الإنساني، بعيدًا عن منطق الربح التجاري، ويتجلى ذلك في تتبع التيارات التجريبية، مثل سينما المؤلف والسينما المباشرة، وتأثيرها على استقلالية المخرجين الشباب، فضلاً عن إبراز دور المرأة في السينما السعودية المعاصرة.
إنّ التمهل في إصدار الأحكام النقدية، رغم حفاظه على الحياد، قد يحد أحيانًا من الموقف النقدي في الفصول التي تغوص في السرد التاريخي أكثر من مناقشة القيمة الجمالية للأعمال. بالمقابل يمنحنا اعتماد ربيع على الذائقة السينمائية والمشاهدة الطويلة مرونة فكرية لالتقاط خصوصيات كل تجربة، ما يشكل مساهمة نقدية مهمة لفهم استقلالية السينما في السياقات العربية والعالمية.
في سياق الوصف التاريخي والتصنيف العام، يسرد ربيع الموجات السينمائية والمدارس والتيارات وأسماء المخرجين، ويقيس السينما العربية والسعودية ضمن إطار عالمي. هذا النهج يعكس حرصًا على الدقة التوثيقية، لكنه في نفس الوقت يدفعنا لتساؤل آخر، هل يحرر الكتاب السينما العربية والسعودية من المركزية العالمية، أم يعيد إنتاجها كنموذج مرجعي؟ يظهر من هذا التوازن حدود الموقف النقدي عند الاعتماد على التصنيف والسرد على حساب التحليل المعمق للمعنى الجمالي والثقافي. تتضح قوة الكتاب عند التحليل الفردي للأفلام، حيث يركز ربيع على أبرز التجارب التي ساهمت في بلورة مفاهيم الاستقلالية الفنية.
يوازن ربيع السيد بين التقنية السينمائية والسياق الاجتماعي والثقافي، ويبرز قدرة المخرجين على تحقيق الاستقلال الفني ضمن القيود الواقعية. هذا الشدّ والجذب بين التوثيق والتحليل بشكل إيجابي، يترك للقارئ مجالًا للتقييم النقدي الذاتي. فالكتاب يجمع بين التوثيق الموسع والتحليل المعمق للأعمال الفردية، محافظًا على حياد معرفي وموقف نقدي مشروع، ويمنح القارئ أدوات فكرية لإعادة النظر في العلاقة بين الحرية الإبداعية، السياق الإنتاجي، والتجربة السينمائية المستقلة.
4- المركز والهامش
يقدّم خالد ربيع السيد عرضًا موسّعًا للسينما العالمية المستقلّة، من الموجة الفرنسية الجديدة إلى دوغما 95، والسينما الأمريكية المستقلّة، كتجارب تأسيسية للابتكار والجماليات السينمائية.
تُعرض هذه التجارب ضمن ما يمكن تسميته بـ “المركز” الذي يشكّل المرجع الأساسي لتقييم التجارب السينمائية الأخرى، سواء على الصعيد الفني أو المعرفي. بالمقابل يتم تقديم السينما العربية، ضمن “الهامش” حيث تُقاس إنتاجاتها وفق معايير المركز، لا وفق خصوصياتها الثقافية والاجتماعية المحلية. هذا التباين بين المركز والهامش، يُبرز أنّه حتى مع حرص الكتاب على الدفاع عن استقلالية التجارب المحلية، فإن منهجه يعيد إنتاج نموذج مركزية جمالية عالمية، تجعل الهامش العربي دائمًا في موقع المقارنة والاستجابة، ويجعل استقلاليته الإبداعية في موضع اختبار مستمر.
يمكن قراءة هذا التباين بين المركز والهامش على أنه علاقة ديناميكية بين القوة المرجعية والمعايير الفنية السائدة من جهة، وبين القدرة على التجريب والإبداع المحلي من جهة أخرى. المركز يفرض غالبًا معايير جمالية ومعرفية محددة تُقارن بها التجارب الأخرى، بينما الهامش، رغم تعرضه لهذه المعايير، يتيح مساحة للإبداع والتجريب، ويُنتج أعمالًا تجمع بين التأثر بالمعايير العالمية والخصوصيات المحلية. هذا ما يتيح للسينما العربية المحلية، بما فيها السينما السعودية، فرصة إنتاج قيم جمالية مستقلة، تتفاعل مع المرجعية العالمية دون أن تُخضع نفسها بالكامل لها، مما يجعلها مجالًا حيويًا للتجريب الفني والبحث عن هوية فنية خاصة.
تحليل الأعمال السينمائية السعودية الحديثة يكشف حالة “بين-بين” حيث لا يمكن تصنيفها على أنها مستقلة تمامًا، ولا يمكن اختزالها في إطار تجاري صرف. فهي نتاج توازن هش بين التجريب الفني والاعتماد الجزئي على التمويل والمهرجانات، بين الحرية الإبداعية والقيود الاقتصادية والمؤسسية. على المستوى الفني، تركز هذه السينما على البعد الإنساني للشخصيات، واستكشاف الهويات الفردية والجماعية، مع تبنّي أساليب سردية مبتكرة تجمع بين الواقعية الدقيقة والرمزية الشعرية، ضمن فضاءات محلية وهويات ثقافية محددة. كما لعبت المخرجات السعوديات دورًا محوريًا في صياغة سينما نسوية مستقلة، جسدت قضايا المرأة اليومية والاجتماعية، مع الحفاظ على التجريب في الشكل والأسلوب، مثل الارتجال في الحوار، والتصوير في مواقع حقيقية، والكاميرا المحمولة. بهذا، أسهمت هذه المخرجات في تأسيس أسس فنية وتجريبية يمكن أن تشكل قاعدة متينة للسينما السعودية المستقبلية، ولكن يبقى الاستقلال الفني هشّاً مع استمرارية تعرضه للضغوطات الاقتصادية والمؤسسية.
يمكننا إعادة صياغة السؤال من “مأزق” الاستقلالية مقابل المركز إلى “أفق إبداعي” كيف يمكن للسينما العربية عامة والسعودية أن تنتج قيمها ومعاييرها الجمالية الخاصة، مع الحفاظ على التفاعل مع الحقل العالمي؟ بحيث لا تُقرأ السينما العربية كأنّها مستجيبة للمعايير المركزية، إنّما ننظر لها كإنتاج فني ناشئ قادر على التفاوض بين السياق المحلي والمتطلبات العالمية، وفتح إمكانيات جديدة للإبداع.
تكمن قوة كتاب “السينما المستقلّة” في قدرته على عرض العلاقة المعقدة بين الاستقلالية والإرث المرجعي للمركز العالمي، مع المحافظة على حياد نقدي وأمانة علمية، ما يجعل السينما المستقلّة العربية تُفهم كعمل تجريبي حي، يتشكل تحت ضغط السياق المحلي والعالمي، ويترك السؤال مفتوحا حول مدى استقلاليته النهائية وإمكان إنتاج قيمه الفنية والجمالية الخاصة.
المادة كاملة في الرابط
https://thesilkroadtoday.com/2025/12/29/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A9-%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A3%D9%85-%D8%AA%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82/


