في مديح التأويل البصري: قراءة استقصائية في كتاب “سيميائيات الأنساق البصرية” للعلامة أمبرتو إيكو
د. عصام عسيري
في عصرٍ باتت فيه الصورة هي “لغة العصر” الأكثر تداولاً في بورصة المعنى، ولم تعد مجرد انعكاسٍ ساذج للواقع بل بنية لغوية معقدة تحتاج إلى تفكيك، يأتي كتاب “سيميائيات الأنساق البصرية” للفيلسوف والروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، ليشكل مرجعاً حيوياً لا غنى عنه في المكتبة العربية. هذا العمل، الصادر عن “دار الحوار” بترجمة رصينة لكل من محمد التهامي العماري ومحمد أودادا، ومراجعة وتقديم السيميائي المغربي البارز سعيد بنكراد، لا يكتفي بكونه ترجمة لنص، بل هو نقل لمعركة فكرية خاضها إيكو ضد المسلمات البصرية.
أمبرتو إيكو: حكيم بولونيا وعراب العلامات
قبل الغوص في تضاريس الكتاب، لا بد من الوقوف عند عتبة مؤلفه. أمبرتو إيكو (1932-2016)، لم يكن مجرد أكاديمي جاف، بل كان ظاهرة ثقافية فريدة استطاعت ردم الهوّة بين الفلسفة القروسطية المعقدة وبين الثقافة الجماهيرية (Pop Culture).
إيكو، الذي عرفه الجمهور العريض روائياً عبقرياً من خلال تحفته “اسم الوردة” و”بندول فوكو”، هو في الجوهر عالم سيميائيات من الطراز الرفيع. لقد امتلك قدرة نادرة على تحويل النظريات اللسانية المعقدة إلى أدوات لتشريح كل شيء: من نصوص القديس توما الأكويني إلى أفلام جيمس بوند، ومن الإعلانات التجارية إلى المخطوطات القديمة. مكانته الثقافية تنبع من كونه “المثقف الموسوعي” الذي رفض النخبوية المتعالية، مؤمناً بأن كل نتاج بشري هو “علامة” قابلة للتأويل.
الكتاب: تفكيك أسطورة “التشابه الطبيعي”
يتمحور كتاب “سيميائيات الأنساق البصرية” حول إشكالية مركزية شغلت إيكو طويلاً: هل الصورة تشبه الواقع حقاً؟ أم أنها شفرة ثقافية نتعلم قراءتها؟
في هذا الكتاب، يشن إيكو هجوماً معرفياً ضد ما يسمى بـ “الأيقونية الساذجة”. فالفكرة السائدة هي أننا نفهم صورة “القطة” لأنها تشبه القطة الحقيقية. لكن إيكو يجادل بأسلوب أكاديمي دقيق بأن هذا “التشابه” هو في الحقيقة نتاج “مواضعات ثقافية” (Conventions). نحن لا نرى الواقع كما هو في الصورة، بل نرى “أنموذجاً إدراكياً” قمنا ببنائه مسبقاً.
يتناول الكتاب بأسلوب تحليلي:
نقد الأيقونية: حيث يفكك إيكو المقولة بأن العلامات البصرية “طبيعية”، مؤكداً أنها محكومة بقوانين وسنن (Codes) لا تقل صرامة عن قوانين اللغة المنطوقة.
الإدراك والتمثيل: العلاقة الجدلية بين ما تراه العين وكيف يترجمه الدماغ بناءً على المخزون الثقافي.
أنماط الإنتاج البصري: كيف يتم إنتاج العلامة لكي تؤدي وظيفة دلالية محددة.
الترجمة والتقديم: قيمة مضافة للنص
لا تكتمل قيمة هذا الكتاب دون الإشارة إلى الجهد الترجمي المبذول. النص الأصلي لإيكو معروف بكثافته واحتشاده بالمصطلحات الفلسفية الدقيقة. وقد نجح المترجمان محمد التهامي العماري ومحمد أودادا في اجتراح لغة عربية سيميائية قادرة على استيعاب المفهوم الإيطالي دون الإخلال بوضوحه.
وتزداد قيمة العمل بمراجعة وتقديم الدكتور سعيد بنكراد، وهو أحد أهم أعمدة السيميائيات في العالم العربي. إن وجود اسم بنكراد على الغلاف يمنح القارئ طمأنينة علمية، فمقدمته ليست مجرد تمهيد، بل هي مفتاح قرائي يضع نظرية إيكو في سياقها التاريخي والمعرفي، ويربطها بواقع الدراسات البصرية العربية.
لماذا نقرأ هذا الكتاب اليوم؟
إن كتاب “سيميائيات الأنساق البصرية” ليس كتاباً للمتعة العابرة، بل هو تمرين شاق وممتع للعقل. نحن نعيش في “حضارة الصورة”، حيث تلاحقنا العلامات البصرية في الشوارع، الهواتف، السينما، والتلفزيون. قراءة هذا الكتاب تمحو أميتنا البصرية؛ فهي تعلمنا ألّا نكون مستهلكين سلبيين للصور، بل قُرّاءً فاعلين قادرين على كشف الأنساق المضمرة خلف الألوان والخطوط والأشكال.
إنه كتاب يعيد الاعتبار للعين والعقل بصفتها أداوات البصر والتفكير، وللصورة بصفتها نصاً ينتظر من يفك شفرته، مقدماً من خلال “دار الحوار” إضافة نوعية للمكتبة العربية التي طالما كانت متعطشة لمثل هذه الدراسات التأسيسية.
صور الأعمال للفنانين Essam Asiri & Daniel Salmo
******
المصادر:
*- الفن حياة للتشكيليين العرب
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– موقع المصرى اليوم – موقع عكاظ
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
********


