لم تكن أوغاريت مدينةً تكتفي بما تنبته أرضها
ولا ميناءً يفتح بابه للبحر ثم يغلقه عند المساء.
كانت عقدة طرقٍ كبرى
تتلاقى عندها القوافل البرّية مع السفن القادمة من وراء الأفق.
لقد اخبرتنا الوثائق الكتابية الأوغاريتية المترجمة
ولا سيّما ذات الطابع الاقتصادي
عن عالمٍ نابضٍ بالحركة.
عن أكثر من ثلاثمئة وخمسين صنفاً من البضائع
كانت تتداولها الأسواق.
وتسجّلها الألواح الطينية بدقّة من يعرف قيمة الشيء قبل وزنه.
نقرأ عن النحاس والقصدير.
هذين المعدنين اللذين صهرا الزمن وحوّلاه إلى برونزٍ يدوم.
وعن الخشب القادم من الجبال.
والحبوب بأنواعها التي كانت خبز الحياة وعماد الاستقرار.
نقرأ عن الصوف.
وزيت الزيتون الذي حمل رائحة الساحل إلى موائد بعيدة.
وعن الخمور التي لم تكن مجرّد شراب.
بل طقساً اجتماعياً واقتصادياً له مكانته.
لكن أوغاريت لم تكن ممرّاً فقط.
كانت أيضاً مدينة تصنع.
في ورشها نُسجت الأقمشة.
وصُبغ الحرير بالأرجوان.
ذلك اللون الذي كان يُختصر به المجد والسلطة والبحر معاً.
وفي أفرانها شُكّلت الأدوات البرونزية.
لا بوصفها حاجات يومية فحسب.
بل شواهد على مهارةٍ صناعيةٍ متقدّمة.
وتحدّثنا الألواح أيضاً عن عالم الرفاهية:
عن حُليٍّ من المعادن الكريمة،
وخشبياتٍ ثمينة.
وعاجٍ جاء من مسافاتٍ بعيدة.
عن أدوات الزينة والتجميل.
والعطور الزيتية.
والمراهم والمساحيق.
وعن الأعشاب الطبية التي كانت تُتاجر بها
كما يُتاجر اليوم بالمعرفة.
هذا التنوع الهائل من السلع
لم يكن لِيشبع سوقاً محلية صغيرة.
بل كان دليلاً واضحاً على أن تجارة أوغاريت
تجاوزت حدودها الجغرافية.
وانخرطت في شبكةٍ تجاريةٍ واسعة
امتدّت عبر البرّ والبحر.
وعبرت حوض المتوسط كلّه.
وتشير السجلات إلى ما يقارب ألفي تاجر
تم إحصاؤهم في الوثائق المكتشفة
كان معظمهم من أبناء أوغاريت
ومن قراها التابعة.
إلى جانب تجار من قبرص.
ومن جزر اليونان.
ومن ممالك ودولٍ أخرى
تشاركت مع أوغاريت البحر ذاته
والمصير التجاري ذاته.
وهذا وحده كافٍ ليكشف
عن القوة الاقتصادية التي تمتّعت بها المدينة.
وعن النفوذ الذي امتلكه تجّارها.
أولئك الذين لم يكونوا مجرد باعة.
بل صُنّاع علاقات.
ومهندسي توازنات اقتصادية
في عالمٍ قديمٍ كان يعرف جيداً
قيمة الموقع.
وقيمة البحر.
وقيمة الكلمة المكتوبة على الطين.
أوغاريت.
لم تكن مدينةً على هامش التاريخ
بل قلباً نابضاً في شبكتها التجارية
وذاكرةً ما زالت ألواحها
تحدّثنا عن اقتصادٍ سبق عصره
وأتقن لغة العالم..
سرد تاريخي
“””””””””””””””””
عاشق أوغاريت..غسّان القيّم
— اعتماداً على تقارير ووثائق
بعثات التنقيب الأثرية العاملة في موقع أوغاريت.
الصورة المرفقة بعض الجرار الفخارية المكتشفة في مدينة اوغاريت الأثرية في ثلاثينيات القرن الماضي كانت مخصصة لحفظ الزيوت والخمور وهي معروضة في متحف اللوفر في باريس


