قراءات نقدية.. للروائي: فخري امين.عن كتاب: ناي .. حين يتكلم الجرح بلغة الموسيقى.. في جريدة الزمان الدولية.- مشاركة: هدير الجبوري.

الناي ….حين يتكلم الجرح بلغة الموسيقى..
على صفحة قراءات نقدية في جريدة الزمان الدولية طبعة بغداد ليوم ٢٩ كانون الثاني ٢٠٢٥…عن كتاب ناي للاديب الاستاذ فخري أمين ووصولها الى القائمة القصيرة لجائزة الابداع العراقي في الأدب…شكرا على الدوام لجريدتنا الاثيرة الزمان…ادناه الموضوع وللرابط.
https://www.azzaman-iraq.com/content.php?id=116040


الناي.. حين يتكلم الجرح بلغة الموسيقى

هدير الجبوري_

هناك روايات تقرأ، واخرى تنصت اليها، كأنها معزوفات مكتوبة بالحروف لا بالنوتات.

رواية ناي للروائي فخري امين، الصادرة عن اتحاد الادباء والكتاب في العراق (2025)، تنتمي الى الفئة الثانية، تلك التي لا تقرأ بعين القارئ بل باذن الروح. رواية جاءت كأنها نغمة طويلة على وتر مكسور، تهب من عمق الجرح لتمنح الحياة ايقاعها المفقود. وصولها الى القائمة القصيرة لجائزة الابداع العراقي ليس سوى اشارة الى مشروع اكبر؛ هو بداية ثلاثية نايسوس، التي تعلن عن ولادة خطاب سردي جديد، يجمع بين الفلسفة والموسيقى والموروث الشعبي في نسيج لغوي نابض.

منذ العنوان، يتقاطع الناي مع السوس، في جدلية تحمل من الرموز اكثر مما تفصح. الناي، اداة الروح والأنين، المنبعثة من القصب الجريح، والسوس، مشروب الذاكرة الجمعية، اليومي والعفوي. هذا التداخل يفتح بوابة مزدوجة بين المقدس واليومي، بين الحنين الجمعي والتجربة الفردية. كأن فخري امين اراد ان يضع قارئه امام مرآة تظهر له وجهه وذاكرته في آن واحد، ليكتشف ان الروح العراقية، مثل الناي، لا تعزف الا حين تجرح.

منذ الاهداء الى روح الموسيقار اكرم حبيب، نفهم ان الموسيقى ليست خلفية في الرواية بل عمودها الفقري. الناي هنا ليس اداة فحسب، بل كائن رمزي يتنفس من الجرح، يحمل بين تجاويفه صدى الفقد والرحمة والحب، وينقلها عبر هواء الكلمات. اللغة مشبعة بايقاع داخلي يجعل القارئ كمن يستمع لمعزوفة روحية طويلة، تتنقل بين الصمت والنغمة، بين السؤال والاشراق.

الناي كصوت الانسان..

يتخذ الكاتب من شخصية حيدر السواس مركزا دائريا تدور حوله الاصوات والاحداث.

الاسم ذاته ينطوي على مفارقة رمزية: حيدر، القوة والانتماء، والسواس، بائع مشروب السوس الذي يعبر الاسواق بعزفه وغنائه الشعبي. هذه الثنائية تترجم جوهر الرواية: تلاحم الروح الجريحة مع الذاكرة الجمعية. حيدر يجوب الموصل وبغداد وغابات الرماد، حاملا نايه كأنما يحمل روحه، هشا في وجه خطاب ديني متشدد وعالم يغص بالتعصب والضياع.

في كل مشهد، يتحول الناي الى امتداد لحيدر، الى رئة ثانية يتنفس بها. حين يعجز عن الكلام، يعزف. وحين يضيق به العالم، يجد في الصوت خلاصه. هنا تتجلى براعة فخري امين في تحويل الموسيقى الى لغة سردية، فالكلمات تكتب بايقاع اشبه بالنفس، والجمل تتنفس كما يتنفس الناي. يختفي الكاتب وراء بطله، او ربما يتماهى معه، فكلاهما يعزف من جرحه الخاص: الكاتب يعزف نايه في اللغة، وحيدر يعزف نايه في الحياة…

ماريا.. رسائل الغياب

في فضاء الرواية، لا تظهر الشخصيات عبثا، بل كأنها نغمات في عمل اوركسترالي متكامل.

ماريا عبدالاحمد تمثل النغمة الرحمانية، حضورها اشبه بصوت يأتي من البعيد، يظهر ويغيب، تاركا اثره في شكل رسائل تتحول الى نايات ورقية. هي الوجه الانثوي للرحمة، والنغمة التي تمنح النص توازنه الانساني.

اما مراد، الراعي الاشوري الناجي من مجزرة سميل، فيحمل نايه كرمز للحياة التي تولد من قلب الموت. صوته يمر عبر حيدر وماريا، فيتحول الالم الى ذاكرة موسيقية، ويغدو الفقد وسيلة للنجاة لا للهلاك.

في المقابل، يقف الشيخ النهماني كصوت نافر، يمثل السلطة الدينية المتعطشة للقمع، في مواجهة صوت الفن والحرية. حوله يتجمع الاسطى صديق وغيره من رموز المجتمع الصامت، اولئك الذين يعيشون من فتات التطرف ويكتفون بالمشاهدة، فيما تخنق الروح ويكمم الجمال.

كل شخصية في ناي هي مقام موسيقي قائم بذاته. لا احد يستبعد من المعزوفة، حتى الصمت له دور، حتى الغياب يتحول الى نغمة. كأن الكاتب يعيد بناء اوركسترا الحياة من عناصرها المكسورة.

سميل.. الجرح الذي يغني

المكان في الرواية ليس جغرافيا بقدر ما هو ذاكرة.

مدينة سميل لا تذكر كحادثة تاريخية، بل كجرح وجودي يتوارثه الناس في انفاسهم. فالمجزرة تتحول الى موسيقى، والفقد الى وطن محتمل، تصنعه الرحمة والانسانية. عبر هذا التحول، يعيد فخري امين كتابة التاريخ بمفردات الفن، ليجعل من الموسيقى ذاكرة بديلة للتاريخ الدموي. الناي هنا يصبح صوت الوجود الذي يصر على ان يعيش رغم الخراب.
..
في هذا البعد الرمزي، تذكرنا الرواية بان الخلاص لا يأتي من السلطة او الايمان المغلق، بل من الفن الذي يعيد تعريف الانسان بنفسه. فالموسيقى، كما يصفها الكاتب، روح للعالم واجنحة للعقل. ومن رحم الفقد يولد وطن جديد، بلا طوائف ولا دم، وطن تشكله النغمة لا السيف.

لغة بين الصوفية والفلسفة

لغة فخري امين في ناي اقرب الى ترنيمة مكتوبة.

جمل طويلة الايقاع، تتداخل فيها المفردات الفلسفية مع الموسيقية، كأن النص كله يعزف على سلم لغوي متحرك. تكراراته ليست حشوا بل ايقاعا، والصمت الذي يتركه بين الجمل جزء من موسيقى النص ذاته.

الكاتب يستخدم العربية في شكلها الاكثر حرية، كأنها تيار وعي موسيقي، يسمح بالانزلاق بين الحلم والواقع، بين التصوف والتاريخ، بين الجسد والروح.

هنا تتحول الرواية الى كونشرتو ادبي، حيث تتعاقب الاصوات وتتمازج، لتصنع لوحة انسانية تنبض بالاسئلة لا بالاجابات.

النهاية تأتي كصمت اخير بعد عزف طويل. صمت ليس موتا، بل اكتمال الدائرة. كأنما تعود الاصوات جميعها الى اصلها الاول: الصمت الذي يولد الموسيقى. وفي هذه اللحظة تومض العبارة الاجمل في الرواية:

الموسيقى هي الصمت وقد صار مرئيا…

ناي… يوتوبيا الجمال في زمن الدم

رواية ناي ليست حكاية عن عازف او مدينة او جرح، بل عن الانسان حين يتكلم من خلال صوته الاعمق. هي مرثية للعالم، وفي الوقت ذاته نشيد له.

كل نغمة فيها تحمل وجعا وتحمل وعدا؛ فالفن، في تصور فخري امين، ليس ترفا بل خلاصا، ليس هروبا من الواقع بل محاولة لتغييره.

من خلال الناي، يعيد الكاتب تعريف معنى الرحمة والجمال وسط الخراب، ليقول لنا ان الانسان، حين يعزف من جرحه، لا ينوح بل يخلق.

انها رواية تعيد للموسيقى دورها الاول: ان تذكرنا باننا ما زلنا احياء، وان الهواء الذي يمر في تجاويف الناي هو ذاته انفاسنا حي..

******************
المصادر :
– موقع جريدة الزمان
– موقع العربية.نت
– موقع: الشرق الاوسط
– موقع : اليوم السابع
– موقع العين
https://www.mojeh.com
– موقع (CNN)– العربية
– موقع: الاهرام
– موقع: صحيفة – الرياض
-صحيفة الثورة السورية
– موقع المصرى اليوم
– مواقع تواصل إجتماعي – فيس بوك – ويكبيديا
– مجلة فن التصوير
– إيليت فوتو آرت: https://elitephotoart.net
***********

أخر المقالات

منكم وإليكم